كيسنجر وتغليب الحوار بين الولايات المتحدة والصين
الدكتور موفق العجلوني
=
بقلم السفير الدكتور موفق العجلوني
المدير العام
مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية
فاجأني حقيقة دعوة معالي وزير خار جية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق السيد هنري كيسنجر ” مهندس السياسة الخارجية الأميركية ” الى تغليب الحوار على القضايا العالقة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية حيث أشار الى ان المواجهة بين أمريكا والصين ستدمر العالم. وأن التوتر الحادث بين الولايات المتحدة والصين الآن إذا انتهى إلى مواجهة عسكرية فهذا من شأنه أن يدمر العالم. بنفس الوقت رحب بالانفتاح الأمريكي على الصين تاريخيًا ، واعتبر ذلك عين الصواب حيث انعكس هذا الانفتاح ايجابياً على الولايات المتحدة لمدة ٣٠ عاماً في ضؤ التطور الذي وصلت اليه الصين و الذي لم يكن في الحسبان ، و كان على الولايات المتحدة أن تنظر إلى تطور الصين منذ وقت طويل.
يعزو قلق الولايات المتحدة خوفها ان لدى الصين الامكانات بالتغلب على الولايات المتحدة. من هنا دعا كيسنجر إلى تغليب الحوار على القضايا العالقة بين البلدين معتبرا أن كلتيهما قادرتان على تدمير العالم، ووضعه في مستوى أسوأ إبان الحرب العالمية الأولى .
لا بد ان نحي السيد كيسنجر ونتمنى له طول العمر ليطل على العالم وخاصة الشرق الأوسط بالدعوة الى الحوار و الحكمة و العقلانية. و لكن يبقى السؤال او الأسئلة التالية التي اطرحها علي السيد كيسنجر مهندس السياسة الخارجية على المستوى العالمي :
§ هل دعا السيد كيسنجر للحوار بين الرئيس بوش الاب بين العراق والكويت قبل احتلال العراق للكويت …!!
§ هل دعا السيد كيسنجر للحوار بين إسرائيل والفلسطينيين …!!!
§ هل دعا السيد كيسنجر للحوار بين بوش الابن والرئيس صدام حسين قبل تدمير العراق و اعدام الرئيس صدام حسين … !!!
باعتقادي لا يهم السيد كيسنجر قيام إسرائيل باحتلال فلسطين وتهجير الفلسطينيين، و لا يهم السيد كيسنجر تدمير العراق و تدمير سوريا و تدمير ليبيا لا بل تدمير الشرق الأوسط، المهم سلامة إسرائيل.
كنت اعتقد ان السيد كيسنجر ، وقد بلغ من العمر عتيا – التاسعة والتسعين من عمره – وهو يملأ الدنيا ويشغل الناس في كل مرة يتكلم فيها، وقد حدث هذا من جديد عندما تحدث الشهر الماضي أمام منتدى دافوس في سويسرا ، فهو يجلس على تجربة طويلة من العمل السياسي الفكري والعملي، وقد كانت بدايته مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، التي جمع فيها كيسنجر بين موقع وزير الخارجية وموقع مستشار الأمن القومي معاً – ان يعتذر للعالم اجمع على السياسات التي انتهجها ابان تسلمه وزارة الخارجية الأميركية و بعد خروجه من وزارة الخارجية ، و استمرت الولايات المتحدة الأميركية بالأخذ بأرائه في سياستها الخارجية الى هذا اليوم و التحييز الكامل و المطلق لإسرائيل ، و خاصة تلك السياسات التي كانت بعيدة عن الحوار .
على الرغم من تقدم السيد كيسنجر بالعمر، الا ان توقده العقلي لا يزال فيما يبدو كما هو، ولا يزال قادراً على أن يطلق من الآراء ووجهات النظر، وخاصة قضية الحرب الروسية الأوكرانية، وبالتالي من الطبيعي أن يدور جدل واسع حول ما تناوله. لأن حديثه أمام المنتدى كان في القضية الأم في العالم هذه الأيام، الحرب الروسية الاوكرانية، و بالتالي من الطبيعي أن يدور جدل واسع حول ما قاله … فالمتحدث مهم لا شك في ذلك، والقضية مهمة هي الأخرى .
من المعروف ان نصائح السيد كيسنجر السياسية للإدارات الأميركية المتعاقبة – و التي كانت سبباً في معاناة الملايين من الشعوب حول العالم – أن على الولايات المتحدة إذا تصدت لمشكلة في عالمنا المعاصر بين دولتين أو أكثر، أن تعمل طول الوقت على إدارتها بدلاً من العمل على حلها، وقد أدى ذلك إلى أن مشكلات وقضايا دولية لا حصر لها قد عاشت عشرات السنين في مكانها، دون أن تجد حلاً يريح أطرافها المختلفة من عناء الصراع.
ولو بحثنا عن نموذج لذلك، فلن نعثر على أفضل من القضية الفلسطينية مثالاً صارخاً على قضية تتحرك في مكانها طول الوقت، بينما أصحابها من الفلسطينيين يدفعون الثمن في كل يوم.
في حديثه في دافوس قال إن الحرب الروسية على أوكرانيا يجب أن تتوقف بسرعة، وأن تفاهماً بين طرفيها لا بد أن يتم، وأن هذا التفاهم يجب أن يحفظ مكانة روسيا بقدر ما يحفظ مكانة أوكرانيا في الوقت ذاته، وأنه لا مانع من أن تتنازل الحكومة الأوكرانية عن بعض المناطق للروس كالقرم مثلاً، وأن ذلك إذا لم يحدث فلن تتوقف الحرب، وسوف تتحول روسيا إلى موقع أمامي للصين في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية .
فاذا امعنا النظر في حديثه في دافوس ، نراه يفكر حسب المذهب السياسي الواقعي، الذي يتطلع إلى الأمور وفق مقتضيات الواقع ومتطلباته، لا على أساس من المثالية أو من الخيال . والواقعية السياسية تنطبق على الشق الأول من حديثه، أكثر مما تنطبق على الشق الثاني المتعلق بتنازل الأوكرانيين عن أرضهم أو عن جزء منها، لأنه ليس من الواقعية في شيء أن تطالب شعباً في العالم بذلك، ولأن شعباً في الأرض لن يوافق على مثل هذا الفهم، ولأنه مطلب يؤسس لمبدأ يمكن أن يؤدي الى مشكلات بلا حصر بين مختلف الدول.
واسم هنري كيسنجر ليس علامة مميزة في الصراع العربي-الإسرائيلي فحسب ، ولكنه أيضا علامة مميزة وبارزة في الفكر السياسي الأمريكي منذ الخمسينيات وحتى هذا اليوم . فمنذ أن بدأ كيسنجر يكتب في السياسة الأمريكية الخارجية عام ١٩٥٧ استمر بعد ذلك حتى عام ١٩٦٩ لكي يخرج بحصيلة دراسات في السياسة الأمريكية الخارجية فصدرت له مؤلفات مثل:
عالم تمت استعادته في عام ١٩٥٧، والأسلحة النووية والسياسة الخارجية في ١٩٦١، وكتاب الاحتمالات المستقبلية للسياسة الخارجية الأمريكية ١٩٦١ ، و كتاب إعادة مراجعة التحالف الأطلسي في عام ١٩٦٥ وفي نفس العام ايضاً صدر له كتاب بعنوان مشاكل الإستراتيجية القومية ، وسياسة أمريكا الخارجية عام ١٩٦٩ ،وكان آخرها كتابه هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية نحو دبلوماسية للقرن العشرين .
نعم استطاع كيسنجر أن ينصب نفسه المهندس الحقيقي للسياسة الأمريكية الخارجية وعلى مدار أكثر من ربع قرن ، وكان مهندس هذه السياسة أيضا كشريك في الحكم ، ومشارك في السلطة وهذا هو سر وزنه الحقيقي كمهندس للسياسة الخارجية الأمريكية. فأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية من وجهة نظر كيسنجر تتمتع بتفوق لم تضاهه حتى أعظم الإمبراطوريات في الماضي ، فمن صناعة الأسلحة إلى تنظيم العمل ، ومن العلوم الى التكنولوجيا ، تمارس الولايات المتحدة سيطرة لامثيل لها في كل أنحاء العالم ،فالموقع الذي شغلته الولايات المتحدة في العقد الأخير من القرن العشرين جعلها المكون الذي لا غنى عنه للاستقرار الدولي.
إن تميز كيسنجر كما تشير بعض الدراسات و رجال السياسة يعود إلى كونه ناقد سياسي شمولي ، إذ استطاع أن يفسر الظواهر التاريخية من خلال مستويات تحليلية ثلاثة هي :
• المستوى المفهومي : ويعني أن الولايات المتحدة الأميركية ونتيجة عدم تعرضها لصراع اجتماعي حاد استطاعت أن ترسخ نظرية السلام الاجتماعي ،داخل المجتمع الأمريكي . وكان هذا واضحاً في النجاح الجزئي الذي حققه كينيدي من خلال اهتمامه بالحاجات المحلية ، وليس العالمية فحسب ، فقد لعب كينيدي دوراً مهماً في وضع سياسات لا تضحي بالقضايا الإقليمية على مذبح الحسابات العالمية ، مما أدى إلى تكوين مفهوم عام لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة ، يقول بان الإطار الطبيعي والمعتاد للعلاقات الدولية هو الانسجام والتناغم.
• المستوى السوسيولوجي ، ويعني به أن هناك فئتين من المثقفين يسيطرون دائماً على صناعة القرار السياسي الأمريكي:
o الفئة الأولى ، هي فئة المحامين الخريجين من كليات الحقوق ، وهي فئة قادرة على حل المشاكل بعد وقوعها في حين أن ليس لديها ،أية قدرة استشرافية على التنبؤ بما يمكن أن يحصل مستقبلاً.
o أما الفئة الثانية، فهي فئة المديرين الكبار – القادمين من الشركات التجارية والصناعية وهي قادرة على التعامل مع الأفراد أكثر من قدرتها على التعامل مع المبادئ والمفاهيم، ويرى كيسنجر أن هاتين الفئتين هما الفئتان المطلوبتان للسياسة الأميركية، التي تهتم بالجوانب التكتيكية والتكنيكية أكثر من اهتمامها بالجوانب النظرية الإستراتيجية .
· الاحلاف في حد ذاتها .
و بالتالي يوجد في فكر كيسنجر السياسي ، ضمانان هامان ،هما المدمكان الرئيسيان في الاستراتيجية الامريكية العامة حيال الصراع العربي الإسرائيلي ، وحيال كل ازمة جديدة في الشرق الأوسط :
o الاول : ضمان امن وسلامة إسرائيل .
o الثاني : ضمان استمرار تدفق البترول العربي ،وفوائض امواله الى الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأميركية .
ويبدو هذان الضمانان في منطق التاريخ والعقل والجغرافيا ايضاً ، ضمانان متناقضين لا يمكن حدوثهما في تاريخ البشر ، او تاريخ الأمم ، الا انهما طرفا معادلة سياسية وتاريخية نادرة ، وهي معادلة الصراع العربي -الإسرائيلي ، فأمريكا كقوة سياسية عظمى ، والعرب كأمة ، معادلة هذا الصراع العربي-الاسرائيلي.
و بالتالي فإن الولايات المتحدة الأميركية من خلال هذه المعادلة، استطاعت ان تحصل على اكثر الصفقات السياسية والاقتصادية ربحاً وفائدة على مر التاريخ الحديث ، وبعيداً عن لغة الأرقام ، يكفي ان الولايات المتحدة الأميركية ، خاصة بعد خروج السوفييت من مصر –وزيادة اسعار البترول بعد حرب ١٩٧٣ اصبحت هي القوة العظمى الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط ، والتي تملك نسبة كبيرة من هذه الامتيازات. ويمكن فهم السياسة الامريكية على انها رد فعل للتحركات السوفياتية في منطقة الشرق الاوسط، فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية وتفجر الصراع الأمريكي – السوفياتي أصبح الشرق الاوسط يحتل مكاناً استراتيجياً مهماً في السياسة الدولية، واصبحت المنطقة تدخل ضمن أطار سياسة الدفاع الأميركية، وتشكل أحد المحاور الاستراتيجية الامريكية لمحاصرة الاتحاد السوفياتي. وفي هذا الصدد يقول كيسنجر: ” لقد انشأنا الاحلاف، ووقعنا كل المعاهدات الدفاعية لتطويق الشيوعية فماذا بعد؟!”