القوى الداخلية تدفع بوتين إلى التصعيد في الحرب مع أوكرانيا
يعكس قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصعيد حربه بشدة على أوكرانيا -من خلال إعلانه في الحادي والعشرين من أيلول (سبتمبر) عن تعبئة جزئية لجنود الاحتياط، وإجراء أربعة استفتاءات زائفة في الأراضي الأوكرانية المحتلة جزئياً، وتهديد نووي مموّه- محاولته اليائسة لإبطال التقدم الذي أحرزته أوكرانيا في ساحة المعركة في الأسابيع الأخيرة. ومن المرجح أن تكون هذه المحاولة اليائسة ناتجة عن الضغط الداخلي.
حتى الآن، بذل بوتين جهداً كبيراً لتجنب التعبئة الرسمية للقوات المسلحة من خلال استدعاء عناصر سابقة في الجيش وتجنيد عناصر جديدة -على الرغم من أنه بشكل غير رسمي، ربما يكون الجيش قد بدأ في القيام بذلك في أوائل نيسان (أبريل) أو أيار (مايو). ومن شبه المؤكد أن يكون بوتين قد عمد إلى التعتيم على المسألة لتجنب ردود الفعل المحلية العنيفة؛ حيث غالباً ما يقول الروس لأنفسهم في أوقات الشدة: “بما أنه ليس هناك حرب”. وتشير هذه العبارة إلى الصدمات الناجمة عن “الحرب العالمية الثانية”، التي لم تُشف بعد. وكان بوتين يعلم أن الحرب لن تحظى بتأييد شعبي فأبقى جميع تدخلاته العسكرية السابقة محدودة قبل الغزو الحالي لأوكرانيا.
كما حاول بوتين إلى هذا الوقت الحفاظ على الوهم القائل إن نطاق العملية وحجم الخسائر ضئيلان. فبعد أيام فقط من دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا في أواخر شباط (فبراير)، حذر الكرملين من أحكام بالسجن تصل إلى 15 عاماً لمن يصف التدخل بـ”الحرب” أو “الغزو”. وفي 13 أيلول (سبتمبر)، بعد الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا مؤخراً واستعادت فيه مساحة كبيرة من أراضيها من روسيا، قال المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إنها لم تجرِ “في هذه المرحلة” أي مناقشة بشأن التعبئة.
فما الذي تغير؟ قامت العناصر المتطرفة في دائرة بوتين بإقناعه على الأرجح بأنه نظراً للخسائر العسكرية الأخيرة، يشكل التصعيد الجذري السبيل الوحيد لكسب الحرب. وبالنسبة لبوتين، يشكل الانتصار الخيار الوحيد. فالتراجع أو التوصل إلى حل وسط هما أمران قد يفكر فيهما زعيم غربي، أما القادة الروس فلا يسلكون طرقاً فرعية.
وهكذا، فإن التصعيد هو في أحسن الأحوال إشارة إلى الغرب. وبها يحاول بوتين تخويف الغرب من احتمال نشوب حرب أكبر -وحتى استخدام الأسلحة النووية- للضغط على الدول الغربية للحد من دعمها الحاسم لأوكرانيا.
ولطالما دفعت هذه العناصر الروسية المتطرفة باتجاه اتخاذ المزيد من الإجراءات واسعة النطاق، وعلى رأسها نيكولاي باتروشيف، أمين عام “مجلس الأمن الروسي” النافذ والحليف المقرب لبوتين، الذي يمثل ما يُعرف بـ”سيلوفيكي” (دائرة من القوميين المتطرفين المرتبطين بالأجهزة الأمنية).
ووصف الخبير في الشؤون الروسية، مارك غاليوتي، باتروشيف، بأنه “أخطر رجل في روسيا” لأنه دفع بوتين أكثر نحو المواقف المتطرفة. وتعود الصداقة بين باتروشيف وبوتين إلى مسيرة باتروشيف كضابط في الاستخبارات السوفيتية (كيه. جي. بي) في لينينغراد. ويقول الخبراء إن بوتين يصغي إلى باتروشيف منذ سنوات. وفي الواقع، يشير غاليوتي، في مقابلة مطولة مع الصحيفة التابعة للحكومة الروسية “روسيسكايا غازيتا” في أيار (مايو)، إلى أن باتروشيف يدعو في النهاية روسيا إلى شن حرب شاملة، وهذا يتطلب تعبئة كاملة، إضافة إلى السيطرة الكاملة للدولة على الاقتصاد الروسي.
وفي الشهر الماضي، انضمت أصوات قومية متطرفة أخرى إلى دعوات متجددة للتعبئة أيضاً، أبرزها إيغور جيركين (المعروف أيضاً باسم ستريلكوف)، وهو ضابط استخبارات روسي سابق لعب دوراً رئيسياً في ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا والمعركة اللاحقة في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا في العام 2014. ولطالما انتقد جيركين طريقة تعامل وزارة الدفاع الروسية مع الحرب منذ بدء الغزو. وقال في وقت سابق من هذا الشهر: “إذا لم يغير شيوخ الكرملين تكتيكاتهم، فسنشهد هزائم كارثية”.
وقال رمضان قديروف، رئيس الشيشان القوي وحليف بوتين المقرب الذي تقاتل قواته في أوكرانيا، في برقية عبر تلغرام في 10 أيلول (سبتمبر): “إذا لم تُجرَ تغييرات اليوم أو غداً في سير العملية العسكرية الخاصة، فسأضطر إلى التوجه إلى قيادة البلاد لأشرح لها الوضع على الأرض”. وبعد أيام، تمت الدعوة إلى التعبئة.
وكما كتب أليكسي كوفاليف، المحرر الاستقصائي في موقع “ميدوزا” الإخباري لمجلة “فورين بوليسي”، أخذت حركة احتجاجية من المتشددين الداعين إلى التصعيد تنتقد باستفاضة وبلا هوادة كيفية تعامل القيادة الروسية مع الحرب، على الرغم من أن هذه الحركة ما تزال تتجنب في الغالب انتقاد بوتين مباشرةً. وعلى عكس الروس الآخرين، يشير هؤلاء المتشددون بشكل روتيني إلى النزاع على أنه حرب. ومن هذا المنطلق، توجه الكرملين إلى النقاد في الأيام الأخيرة، محذراً إياهم بـ”توخي الحذر الشديد”. وللمرة الأولى، يبدو أن هذا التحذير موجه إلى المتشددين وليس إلى النقاد الليبراليين المناهضين للحرب.
يشير لجوء بوتين إلى التعبئة الجزئية إلى أنه يخشى المتشددين في النظام أكثر مما يخشى الرأي العام في بلاده. ويعني الانتقاد المتزايد أن العناصر الأكثر تطرفاً من بين مؤيديه يمكن أن تنقلب ضده وتهدد سيطرته على السلطة بطريقة يعجز عنها الرأي العام، لأن المتشددين تربطهم صلات بالأجهزة الأمنية، وقد يستخدمون العنف على الأرجح لتحقيق أهدافهم.
في أواخر العام 1999، كتب بوتين مقالاً طويلاً بعنوان “روسيا في مطلع الألفية”، أعرب فيه عن أسفه لخسارة روسيا مكانتها الدولية، وعن مخاوفه من أن تفقد البلاد وحدتها. وفي الواقع، لطالما راود بوتين هذا الخوف، وغالباً ما احتل الأولوية لديه على مر السنين. ومن المفارقات أن قراراته قد تؤدي في النهاية إلى ما سعى بالتحديد إلى تجنبه.
ومن جهته، يجب أن يتذكر الغرب أن هذه ليست المرة الأولى التي يصدر فيها بوتين تهديدات نووية. وفي حين أن تجاهلها قد يعكس عدم المسؤولية، إلا أن الاستسلام للابتزاز له تداعياته الخاصة أيضاً. وفي الوقت الحالي، ليس الجيش الروسي في وضعية تسمح له بمحاربة “الناتو”، ومن غير الواضح إلى أي مدى ستعالج التعبئة الجزئية المشاكل العسكرية الروسية. إضافة إلى ذلك، ما يزال التحكم بالزر النووي بيد فلاديمير بوتين وليس باتروشيف أو غيره من المتشددين.
وفي الوقت نفسه، يستمر الأوكرانيون -الذين سيكونون هم الضحايا على الأرجح لأي ضربة نووية روسية تكتيكية- في الالتزام بالقتال على الرغم من المخاطر. وقد أصبح اليوم تزويدهم بالدعم الذي يحتاجون إليه أكثر أهمية من أي وقت مضى. فالمعركة لا تقتصر على أوكرانيا فحسب، بل تتمحور حول الغرب بالنسبة لبوتين والمتشددين على حد سواء.
ومن وجهة نظر الرئيس الروسي وهؤلاء المتشددين، تسعى الدول الغربية إلى إضعاف روسيا، إن لم يكن تدميرها، في حين ينظرون إلى الحكومة الأوكرانية على أنها دمية بيد الولايات المتحدة. كما يشنون هذه الحرب للحفاظ على حق روسيا في دائرة نفوذ إمبريالية، وقدرتها على التصرف بخلاف الأعراف المقبولة دولياً، وبديلها عن النظام العالمي القائم على القواعد والذي تتمتع فيه الدول الصغرى بالسيادة بالقدر نفسه الذي تتمتع به الدول الكبرى وتكون فيه حدود لما يمكن أن تفعله الحكومة بمواطنيها. لقد أصبح مستقبل النظام العالمي الليبرالي على المحك.
*آنا بورشيفسكايا: زميلة أقدم في “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط”، ومؤلفة كتاب “حرب بوتين في سورية: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أميركا”. وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع “ان بي سي نيوز”.
التعليقات مغلقة.