د. عدنان العبداللات قامة وطنية وعالمية خسرناها
مهدي مبارك عبدالله
بقلم /مهدي مبارك عبد الله
استقبل الاردنيون مساء يوم الثلاثاء 9 /3 / 2021 بالحزن والأسى خبر وفاة
الدكتور عدنان سالم العبداللات استشاري أمراض الدماغ والاعصاب عن عمر
ناهز الـ 78 عام جراء إصابته بفيروس كورونا حيث لم يكن الوقت حليفه
ليتلقى الإنعاش قبل أن يغلق عينيه إلى الأبد بعد أن كان يعطي الحياة
للمرضى والمصابين وبرحيله خسر الوطن والعالم قامة طبية قدمت الكثير من
العلم والخير للإنسانية قاطبة وفضلا عن اننا فقدنا إنساناً رائعاً
ومتواضعاً وخدوماً فقد خسرنا طبيباً صاحب مهنة شريفة ورسالة نبيله وخدمة
عظيمة في إنقاذ حياة الناس من وحش المرض الفتاك ولهذا فان وجعنا كبير
ومصابنا مؤلم بعد التحاقه بقافلة شهداء العمل والواجب ممن سبق من
المقاتلين الأشاوس ” جنود الجيش الابيض ” رسل الأمل والعمل الذين وقفوا
بكل اصرار وعزيمة وفداء في الصفوف الأمامية لمواجهة هذا الوباء اللعين
الذي افترس العالم بلا رحمة
الراحل الدكتور العبداللات كان عنوان مشرف لكل طبيب فقد تم اختياره كأحد
افضل عشرة أطباء في مجال أمراض الدماغ والاعصاب على مستوى العالم خلال
100 عام وقد احتل مكانة الصدارة في العقول العربية النابغة التي لم (
ينقصها يوما الذكاء لكنها كانت تعاني دائما من حالة فقدان للهوية وقلة
تقدير للذات ) وقد استطاع بفضل مثابرته وحبه للعلم والابتكار والبحث أن
يصل إلى احداث نهضة علمية عالمية في مجال تخصصه في علاج الأمراض التي
تصيب الجهاز العصبي فيما قاده الشغف بالاختصاص ودقة الملاحظة وصدق الولاء
والانتماء لوطنه منذ البداية لوضع خلاصة إنجازاته الطبية وذكائه ومهاراته
تحت تصرف بلاده وقد كان يطمح دائما بأن يرفد الشباب بالتدريب والدعم
والخبرة التي اكتسبها ضمن سجل حافل بالإنجازات الطبية والعلمية المتميزة
ولد فقيدنا الدكتور العبداللات في السلط عام 1943 لأسرة متوسطة مؤلفة من
عدد كبير من الأخوة والأخوات وقد تربى على البساطة والتواضع والده كان
يتاجر بالأغنام أما والدته فهي ابنة عائلة من كرام وجهاء البلقاء
انتقلت اسرته بسبب ظروف عمل والده إلى عمان وتلقى تعليمه الابتدائي
والثانوي في مدارسها وعرف عنه النباهة والتفوق في دراسته ليكمل تعليمه
بتفوق عام 1960 تقدم لدراسة الطب في دمشق وكانت المنافسة كبيرة آنذاك
لأن عدد المقاعد الممنوحة للطلبة الأجانب كانت 10 مقاعد فقط واستطاع
الحصول على مقعد منها ودراسة الطب في سوريا بين الاعوام 1960- 196 ورغم
ان الدراسة في سوريا كانت شبه مجانية حيث كان قسط الدراسة للطلبة العرب
مبلغًا زهيدًا جدًا الا إنها كانت صعبة للغاية خصوصًا أن كليات الطب
السورية تدرس المناهج العلمية باللغة العربية ما يجعل الدراسة والعودة
إلى المراجع أمرًا شاقًا وصعبًا للغاية
عين بعد تخرجه طبيبا عسكريا في القوات المسلحة برتبة ملازم أول و خلال
فترة عمله لاحظ تزايد أعداد المرضى المصابين بامراض الجهاز العصبي الذين
لا يجدوا من يعالجهم لندرة هذا الاختصاص في الأردن لذلك قرر السفر إلى
لندن في الفترة بين 1972- 1974 لدراسة تخصص الأعصاب وليستقي العلم
والخبرات من منبعها المتمكن وهنالك التحق بأعرق مستشفى بريطاني في مجال
أمراض الأعصاب المستشفى الوطني لطب وجراحة الأعصاب في كوين سكوير وهو (
أول مشفى أنشئ في إنجلترا متخصص في علاج أمراض الجهاز العصبي ) وقد حصل
على الزمالة البريطانية للطب الباطني وعاد بعدها إلى الأردن ليعمل في
مجال اختصاصه بالمستشفيات العسكرية
بعد عودته من بريطانيا لاحظ الدكتورعدنان عند ( مريض جاء لمراجعته )
أعراضًا لم يقرأ عنها أو يرى ما يشابهها في بريطانيا حيث كان المريض
يشتكي من اضطراب في ( تصبغ الجلد والشعر وشلل سفلي واعتلال العصب المحيطي
) وعند البحث أكثر وجد أعراضًا مشابهة تكرر في عائلة المريض ( أخ المريض
وأخته ) وقد حاول الحصول على استشارة أساتذته في لندن لكنهم أبلغوه أنه
لا علم لهم بمثل هكذا مرض فكان التحدي أمامه كبيرًا بإقناع الحكومة (
كونه طبيبًا عسكريًا ) بالسفر مع المريض إلى بريطانيا لعقد لجنة من
اختصاصي أمراض الأعصاب لمعرفة ماهية المرض
وبعد رفض الطلب المتكرر ومحاولاته المتعددة استطاع أن يسافر مع مريضه إلى
بريطانيا وهناك عقدت لجنة مكونة من أكثر من 40 بروفيسور في مجال أمراض
الجهاز العصبي وتم التوصل إلى أن هذه المتلازمة غير مكتشفة مسبقًا وأن
الدكتور عدنان العبد اللات هو مكتشفها حيث تم تشكيل فريق عمل من الباحثين
في لندن عام 1980 لإجراء فحوصات الحمض النووي على المريض ليتم معرفة سبب
المرض الذي يعتقد أن سببه صفة وراثية متنحية وغير مرتبطة بالجنس وقد أطلق
آنذاك على المرض متلازمة ( العبد اللات ديفيس فراج ) وبعد سبعة أعوام
اعترف بهذه المتلازمة عالميًا وبمكتشفها ليصبح بعدها الدكتور العبداللات
أحد أهم أطباء الأعصاب في العالم
ويذكر بان الدكتور العبداللات حصل على الزمالة من كلية الأطباء الباطنية
الملكية البريطانية عام 1974 وأصبح أخصائي باطنية عام 1975 وشارك في دورة
أمراض الدماغ والأعصاب في المستشفى الوطني في لندن بين عامي 1978 و1979
وحصل على الشهادة العليا في الطب عام 1991 كما شغل منصب رئيس شعبة
الأعصاب والدماغ في مستشفى مدينة الحسين الطبية بين عامي 1979 و1994
واحيل على التقاعد برتبة عميد طبيب في القوات المسلحة الأردنية ثم بدأ
ممارسة عمله في عيادته الخاصة والتي كانت احد اهم الاعمدة الطبية
المشهورة في العاصمة عمان
وكان في كل لقاءاته الاجتماعية والطبية يقول ان أي معلومات طبية او تشخيص
أو دواء غير كافية للعلاج والشفاء ما لم تكن مصحوبة ( بابتسامته وحسن
استقباله ووفادته وإصغائه ( ذلك الطبيب الانسان الذي كان يقول مريضه بعد
خروجه من عنده ( حتى لو لم اشف يكفيني حسن تعامله واستقباله وبشاشته
وتواضعه )
لقد اثبت الراحل الدكتور عدنان بان مهنة الطب مهنة إنسانية وليست تجارية
بحتة في زمن تحول فيه بعض الأطباء إلى تجار امراض وعلل بشرية من أجل
الغنى السريع ونسوا أو تناسوا أن الغنى لا يقاس بالمال ولكنه غنى النفس
والعطاء اللامحدود وهو ما جسده طبيبنا الراحل بكل معانى الحب والعطاء
وبصمت شديد حيث لم يكن يبحث عن شهرة اوالمال بقدر ما يبحث عن مساعدة مريض
والتخفيف من آلامه وعمل خير لوجه الله تعالى وذات يوم وبعدما سمعت عنه
كثيرا
وبدافع الفضول قررت أن اذهب الى عيادته كى اقف على حقيقة ما سمعت فشاهدت
بأرض الواقع سلوكه الانساني القويم كمثال لامع امامي يقتدى به وهو يرى في
المرضى وأهلهم بشراً وأرواحاً وانفس ينبغي الاهتمام بها كثيرا واليوم
وبعد رحيله عنا الى جوار ربه يؤكد بان الاقلام تقف جافة حائرة والهامات
تنتصب بلا حراك جامدة تقديرا لشخصيته وانسانيته التي لا زالت من عالم
الغيب البعيد تشعرنا ان ” الدنيا بخير ” وان ملائكة الرحمة بخصالهم
الحميدة سيبقون يعيشون بيننا ويحرسون صحتنا
وحينما كان يسأل الراحل عن جائحة كورونا المستجد التي ذهب ضحيتها كان
يقول يجب أن نتعلم من هذه الأزمة وأن نتعاون ولا نعيد الأخطاء نفسها بهذه
الكلمات القليلة والواضحة والمعبرة اختزل الدكتور العبداللات رسالته التي
وجهها للوطن والعالم لكي نخرج من تجربة كورونا القاسية بالدرس الذي يجعل
البشرية على استعداد لمواجهة أي وباء سيما وانها الفرصة الوحيدة امامنا
فإذا لم تستغلها بلدان العالم فلن تنجح مرة ثانية في مواجهة الأوبئة
المقبلة والتي ربما تكون اكثر شراسة واستعصاء
نسال الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وان يلهم أهله وذويه جميل الصبر
والسلوان ولهم من بعده حسن العزاء و انا لله وانا اليه راجعون
mahdimubarak@gmail.com