كريم يونس// د. حفظي اشتية

 

يسهل نطق الرقم، ويستحضر الذهن قدسيته بقرآن يُتلى، وحالة نضج عقلي وعاطفي تتجلى، (14600)يوم، أشرقت فيها الشمس وأفلتْ، وطلع القمر وغاب، نهضت ممالك، وتهاوت أُخرى، دارت رحى حروب طاحنة، وتوقفت بانتصار أو هزيمة، أو هدنة لالتقاط أنفاس، وجرت مفاوضات ومفاوضات كان حصادها قبض الريح، وخداع السراب، واقتضام الأرض، والإيغال في رحلات العذاب، وُلد أبناء ثم أحفاد، سارت مواكبهم في المدارس والجامعات، عملوا وكدّوا في خضم الحياة، مات الوالد المكلوم، وكثير من الأصحاب والأتراب، ووالدة قبضت على الجمر، يتقافز قلبها أمامها من سجن إلى سجن في 700 زيارة، كل زيارة منها قطع وألوان من العذاب، وتساقطت سنوات العمر وهي صابرة منتظرة، فاستضافها الرحمن قبل بضعة أشهر لتنظر المشهد من علٍ، حيث جزاء المؤمنين الصابرين، نبتت أشجار وشاخت أُخرى وتهالكت، توالت أغاريد الطيور جيلا إثر جيل، وبكت الحمائم هديلا بعد هديل………..

ــ وأنت يا كريم هناك، في دنيا البطولة والتضحية الحقّة، وعالم التحدي والصبر الجميل: صبر يونس في بطن الحوت، وصبر أيوب على البلايا، وصبر إبراهيم على ذبح فلذة الكبد، وصبر إسماعيل على الظمأ، وصبر يوسف على الظلم……لا ترى من هذه الحياة إلا جدران الزنزانة، وسماء علوية مربعة بحجم ما تجود به أسوار السجن المرتفعة، تشتاق أن ترى وتسمع صوت أمّ تداعب حبات سبحتها وتدعو لك، أو والد يرافق قلبك خطاه الوئيدة، أو زوجة تناديك للجلوس في شرفة البيت المطلة على بقاع فلسطين، أو طفل تسمع صرخة ميلاده، ثم يحبو بين يديك ويغوص في أحضانك، أو ربوع وطن تتغير معالمه غصباً غصباً، يوماً فيوماً، لكن ذرّات ترابه تعرف أهلها الجقيقيين، وتضم في أعماقها حكايات من رحلوا ومن صمدوا ومن قاوموا ومن عُذبوا ومن سُجنوا ومن استُشهدوا عبر السنين……..

وتبقى الأرض ذات الأرض عربية منذ أنفاس اليبوسيين، وأغراس الزيتون والتين، وعزمات أبي عبيدة، وعهود عمر بن الخطاب، وفتكات صلاح الدين، وبطولات قطز والظاهر بيبرس، ومعجزات أحمد باشا الجزار، وطلائعية جهاد القسام والحسيني، وفزعات السواعد السمر والكوفيّات الحمر على أسوار القدس.

 

ــ وللحرية الحمراء باب :

دقّتْه وستظل تدقّه قبضات العزيمة القوية، المضرجة بدماء البطولة والفداء، على دفقات مشاعر أبي فراس الحمداني والشابّي وشوقي، ليكون الميلاد نحو حياة عز وكرامة، أو استشهاد يتمناه كل حرّ ابيّ شريف، وما سجن عكا ببحرها الهدّار عنك ببعيد يا كريم، يصخب البحر حولها بنزق آناء الليل وأطراف النهار، وهي صامدة تتكسر على صهوات صخراتها أمواج عاتية متمردة وأمواج، تعبر نحوها مسافرة من أقاصي الدنيا لتخمد وتستسلم على جنبات قلعتها، وتذل وتخنع للخطام، ويسكنها الروع من فدائية عيسى العوّام، يُسند المدينة المحاصرة للصمود في وجه جحافل الغزاة، وتقلّب صفحات التاريخ لتطالع شعبا ما ذل يوما ولا هان ولا هادن ولا استكان، يركض أبطاله جذلين نحو شرف الموت، وليس الخبر كالعيان، ومن كان في شك فلينظر كيف مرق جمجوم والزيروحجازي من سجن عكا كالسهام، يسابقون السجّان، ويتسابقون تصدح حناجرهم بأناشيد المجد والجرأة، نحو أرجوحة توّاقة للتشرف بعناق أعناق الأبطال.

ومضت القوافل تتبع القوافل، وظل الصمود هو الصمود، والعهود هي العهود، وما كريم إلا صدى صادق لاسمه، فالجود بالعمر أقصى غاية الجود.

ويضحك السجين أخيرا ليبكي السجّان، وتحتضنه رعنانة قبل عارة وعرعرة، وتضج بالفرح الناصرة والطيبة وكفركنا وأقاصي النقب وأعالي الجليل، ويتجاوز كريم “ماراثون” الإعدام ثم المؤبد ثم سجن العمر بصحبة ترقب الموت، وتُطوى أربعون عاما في لحظة عناقٍ لشاهد قبر، أو حضن أخ، أو أخت، أو قريب، أو صديق، أو إطلالةٍ على قرى مثلثٍ كانت أصلا ضمن الدولة العربية في خريطة التقسيم العتيدة، لكنه العالم الغربي المنافق المخادع المتآمر المزيَّف، ترك الحرية لقوة العدوان الغاشمة فرسمت الحدود وفق قذائف المدافع الغادرة الظالمة تبطش بالوادعين المسالمين.

ولقد تعلمنا الدرس، ووعيناه جيدا، هاجرنا مع هاجر، ثم عدنا العود الحميد إلى الجذور، ولن نرحل، مليون وأكثر خيّم عليهم ظلام السجن فما وهنوا ولا استكانوا، وما زال خمسة آلاف من أسود الشرى يقيمون دولة الحرية داخل السجون، ويدقون كل لحظة جدران خزان الأمة لتعي ما يُخطط لها ويراد بها، ولتدرك جيدا أن مهر هذه البلاد غالٍ، لا يقوى عليه إلا أفذاذ الرجال، بعزائم ثابتة كرواسي الجبال، وأن الطليعة الطاهرة المقاومة غرب النهر المقدس هي حائط الصمود الأول الأعزّ والأمنع والأقدس، يذود عن حياض أمة كانت يوما صفوة أمم الأرض، ولا بدّ أن تعود.

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة