نبوءاتُ الشعراء مشاعلٌ الوعي// د. حفظي اشتية
=
لطالما ارتبط الشعر بعالم الجنّ، وتواردت في كتب الأدب والتراث حكايات حول ذلك، التبست فيها الحقائق بالأساطير والخرافات، فصعُب التصديق، لكنْ، بقيت الأسئلة عالقة في الذهن بسبب القصور عن النفي الحاسم لوجود تلك العلاقة.
ولو ضربنا الذكر صفحا عن الخوض في غمار هذا الأمر، وتدانينا نحو عالم الواقع الحيّ، فإننا لا نشكّ في أنّ لكثير من الشعراء شخصياتٍ شفافةً، ومشاعرَ جياشةً، وذكاءً حادّا وقّادا، وفراسة ونباهة، وتحليلاً دقيقاً لوقائع الحاضر القائمة، لاستشراف المستقبل، والتحذير من مخاطره الحتمية القادمة.
ولأننا نعيش في حمأة الاضطرابات والقلق والمخاوف، ولأنّ الأعداء يتوعّدون وما عادوا يتورّعون عن إظهار نواياهم جهارا نهارا، وإشهار مخططاتهم المعلنة في خرائطهم المكشوفة، وتجهيزاتهم لعصاباتهم الوليدة الجديدة بمسمّى الحرس الوطني، ولأنّ دعواتهم تملأ الرحب في محو الشعوب، وإلغاء الدول، فإننا نجد أنفسنا نردّد : ما أشبه الليلة بالبارحة!!! وما أحوجنا إلى إشعال الوعي باستحضار بعض نبوءات نبهاء الشعراء لندرك إلى أين نحن ذاهبون، عسى أن تسمع منا الآذان، وتعقل القلوب، وتبصر العيون، وتتّقد الأذهان قبل فوات الأوان!!!
-قال الجواهري عام 1929، والصراع في فلسطين لمّا يزلْ في بواكيره:
فاضتْ جروحُ فلسطينٍ مذكرةً جــرحـــاً بأندلــسٍ للآن ما التأمــــا
يا أمــةً غرّها الإقبــالُ ناسيــةً أنّ الزمــان طوى من قبلـها أُممـــا
سيُلحقـــونَ فلســـــطيناً بأندلسٍ ويعطفــون عليها البيتَ والحَرَمــــا
ويسلبــونكِ بــغداداً وجِـلّقـــــةً ويتركونكِ لا لحمـــاً ولا عظمـــــا
يا أمةً لخصومٍ ضدّها احتكمتْ كيف ارتضيتِ خصيماً ظالماً حَكَما؟
لا تطلـبي من يد الجبّار مرحمةً ضعــي عـلى هامـــةٍ جبّارةٍ قدمـــا
(مات الجواهري في المنافي، وضاعت فلسطين كما سبق أنْ ضاعت الأندلس، وهاهي بغداد وجِلّق ” دمشق” تقاوم كلٌّ منهما ببسالة في بواقي الرمق!!!)
-يبطش التشاؤم بعرار في قصيدة” عشيّات وادي اليابس” سنة 1933، ويستلهم الخطر المحدق بقومه مسلمين ومسيحيين، غرب النهر وشرقه، فيصيح متفجّعاً:
لله قومي كيف عكّر صفــوَهم طيشُ الشــــيوخ وخفّةُ الشبّانِ
وتسوّل المتزعمون حــقوقَهُم من زمــرة الإذّان والغـــلمــانِ
يا ربّ إنْ” بلفور” أنفذَ وعدَه كم مسـلم يبقى وكم نـصـراني
وكيانُ مسجد قريتي مَن ذا الذي يُبقي عليه إذا أُزيــل كيــاني
وكنيسة العذراء أين مكانــــــها سيكون إنْ بُعثَ اليهود مكاني
( مات عرار بحرقة نار النكبة، وكان شِبله “وصفي” قد تشرّب همَّه وفكره، فبادر إلى التطوّع للدفاع عن ثرى فلسطين، لكنّ المقادير جرَتْ نحو النهايات المتوقًّعة الفاجعة الموجعة!!!)
-سنة 1935، زار الأمير سعود بن عبد العزيز الذي أصبح ملكاً فيما بعد، زار فلسطين ومرّ ببلدة”عنبتا-طولكرم”، فألقى ابنُها الشاعر عبد الرحيم محمود قصيدة بين يديه، يرحب به، ويشكو وجعه ووجع فلسطين، ويحذّر من الأخطار الداهمة القادمة، قال فيها:
يا ذا الأمير أمام عينِك شاعرٌ ضُمَّتْ على الشكوى المريرةِ أضلعُه
المسجدُ الأقصى أجئتَ تزورُهُ أم جئتَ من قبل الضياع تودّعُــــــه
حَرَمٌ تُبــاع لكلّ أوكعَ آبــــــقٍ ولـــكلّ أفّـــاقٍ شريـــــدٍ أربُعُـــــــه
وغداً وما أدناه! لا يبقى سوى دمــع لنـــا يَهمــي وســـنّ نَقرَعُـــه
ويُقرّبُ الأمرَ العصيبَ أسافلٌ عَـجِلوا علــينا بالـــذي نتــوقَّـعُــــــه
( استشهد عبد الرحيم محمود بالقرب من قرية الشجرة في فلسطين، وحلّت النكبة سنة1948، ونحن في ظلال ذكرياتها الأليمة هذه الأيام، وضاعت البلاد، ثمّ ضاع المسجد الاقصى، وأُحرق، وقُسّم فعليا زمانياً، واستبيح حماه، ويُخشى أنّ المقدمات تقود حتماً إلى التقسيم المكانيّ، أو إلى ما هو أسوأ من ذلك!!!)
-تنقّل الشاعر العراقيّ معروف الرصافي بين بغداد ودمشق وإسطنبول، وعُيّن معلماً في دار المعلمين بالقدس سنة 1920، وعاين الأوضاع المتردية في فلسطين والشرق العربي، واستشرف الأهوال المنتظرة، وثار على الاحتلال البريطاني في العراق، الذي سلب إرادة الشعب بفرض دستور هزيل، وتألم الرصافي لاستكانة الناس، وقبولهم الوضع المهين، فتفجرت ثورة كلماته تقريعاً ولوماً وتبكيتاً، فقال لبني قومه يعالجهم بالصدمة والصعقة لإيقاظ وعيهم:
يا قوم لا تتكلموا إنّ الكــلام مــحـــرّمُ
نامــوا ولا تسيقظوا ما فــــاز إلّا النُّــــوَّمُ
وتأخروا عن كلّ ما يقــضي بأنْ تتقدمــوا
ودَعوا التفهُّمَ جــانباً فالخـــير ألّا تفهمـوا
أمّا السياسةَ فاتركوا أبـــداً وإلّا تندمــــوا
مَن شاء منكم أن يعيـ شَ اليومَ وهو مُكرَّمُ
فليُمْسِ لا ســمعٌ ولا بصــرٌ لديه ولا فمُ
لا يستحقّ كرامةً إلّا الأصــمُّ الأبكـــمُ
“إنْ” قيل إنّ بلادكم يا قوم سوف تُقسَّمُ
فتحمّدوا وتشكّروا وترنّحوا وترنّموا!!!!!
(مات بحسرته الرصافي عام 1945، وداهمتْ بعده الشرقَ العربيّ ويلاتٌ و ويلات، وتقسَّمت بلادٌ إثر بلاد، وجفَّ الرافدان، وبكى النخيل، وعلا العويل، وتجرّعتْ كأسَ المهانةِ بغداد، وما زال الشجى يبعث الشجى، والخوفُ كلُّ الخوفِ ممّا هو آتٍ……………………….!!!)
التعليقات مغلقة.