وسّع سجنك، أم وسّع صدرك؟! // د. حفظي اشتية
ذكر لي الصديق الدكتور عبدالرحيم بخيت الشهاب الحكاية الطريفة التالية، وكان رئيسا لنادي الغور الأوسط في ثمانينيات القرن الماضي، والغور حينها يشهد حركة ثقافية عمرانية اقتصادية سياسية هائلة، فمشاريع الريّ تمتد شرايانات تحمل نسغ الحياة في أرجاء الوادي، والشركات العمرانية الأجنبية العظمى تشيد آلاف الوحدات الإسكانية والمدارس، وشبكات الكهرباء والمياه تتسلل وتتغلغل في كل مكان، والزراعة الحديثة تتقدم وتتطور، والمنتوجات تنفتح أمامها بوابات دول الجوار والعالم، ورقعة الأرض الزراعية تمتد وتتسع، والبنية التحتية من شوارع وطرقات، ومرافق خدمات، ومستشفيات ومراكز صحية، ومديريات إرشاد زراعي وجمعيات زراعية، وتجمعات إدارية لسلطة وادي الأردن، ومجالس بلدية وقروية…..إلخ كل ذلك يمضي قُدُما على قدم وساق بهمة عالية وإصرار عنيد.
استضاف النادي وزيرين، وبعض الأمناء العامين، ونخبة من المتنورين في ندوة حوارية في مركز تسويق العارضة، للاطلاع على مشاكل المنطقة ومطالب الأهالي، ودار حديث واعٍ، وقُدّمت مطالب واقعية ضرورية تتعلق بالزراعة والتعليم والصحة والإسكان والتصدير….إلخ
ثم وقف أحد الحضور صارخا بأعلى صوته، مخاطبا وزير الداخلية، مطالبا بإنشاء سجن لأبناء المنطقة.
ضجّ الجميع بالضحك، وطال ذلك، وبعد أن هدأت القاعة، سُئل الرجل بعتاب واستهجان : الناس يطالبون بإنشاء مستشفيات ومصانع ومدارس، وأنت تطالب بسجن؟!!! فردّ قائلا : يا سيدي، عيالنا مساجين، والسجون بعيدة عنا، نقطع البلاد ونذوق المرار حتى نزورهم. نريد سجنا قريبا يوفر علينا الجهد والوقت والمال.
وكأن ذلك الرجل جاء يسعى من ذاك المدى البعيد لينظر أحوالنا في هذا الزمان، ويرى كيف فاضت السجون وغُصّت بمن فيها، وبدلا من أن نعالج أسبابا قديمة تفتح أبواب السجون على مصاريعها، ها نحن نبتدع أسبابا جديدة، ونسنّ قوانين عتيدة لجرائم نضخمها، وننفخ فيها من روح الكِبْر والاستعلاء والعناد، في الوقت الذي كان يمكن ببساطة أن نتسامى ونتعالى، ونضرب عنها الذكر صفحا، فتموت إهمالا.
إن بقي هناك من يقدّر رأيا، أو يسمع قولا، نقول :
إلى كثير من فرسان التواصل الاجتماعي، الذين ذلّ لهم المهاد، وعلا بهم الجو، وخلا أمامهم الميدان فطلبوا النزال والطعان، وسمّموا أسماعنا وأبصارنا، ونحروا لغتنا العربية دون رحمة من الوريد إلى الوريد بتعليقاتهم، ومقولاتهم الهزيلة الشائهة، وانتقاداتهم الهائمة المتحللة من كل قيود، المتفلتة من أي حدود، المفتقرة إلى أدنى دليل أو برهان، الزاخرة بالصراخ والسباب وبذاءة اللسان، نقول لهم : ارحمونا، وارحموا وطنكم، فليس هذا هو الطريق السويّ للإصلاح الحقيقي الواعي المنشود الراشد الرشيد، بل هي فوضى وبلبلة، وخلط الحابل بالنابل، فتضيع الحقائق تحت هائل الركام، ونكون وإياكم كالمنْبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
وإلى كل مسؤول واعٍ، وحامل ثقل أمانة، وراعٍ تعلقت بعنقه رعيته، نقول :
وسّع صدرك وصبرك، وكبّر عقلك، وتسامَ، وتجاهلْ، وتغافلْ، فذاك أليق بك، وأولى لك.
وسّع صدرك وصبرك، لأنك قبلت أن تكون مسؤولا، بل لعلك سعيت إلى ذلك بكل وسيلة، لتتحقق لك الهيبة، أو المكاسب، أو السلطة والنفوذ والصولجان، أو لخدمة وطنك، وجعلت ذلك لك هدفا ساميا أمثل، فلمَ لا تقبل أن تُنتقد؟! ولمَ لا تتحمل؟!
أنت مسؤول أمام الله أولا، وأمام الناس ثانيا، فهل تدّعي الكمال؟!(أيّ الرجال المهذب؟).
إذا كنت تعمل (وهذا ما نأمله ونتمناه) فحتما ستخطىء، وقد تتعرض إلى ضغوط (وتلك مصيبتنا)، فتنحرف غصبا عن القرار الصائب، وستظلِم، فلمَ لا تُفسح المجال للمظلوم أن يتألم عندما يخنقه القهر وتضيق به الحال؟!
انظر إلى مَن كان قبلك منذ بدء الخلق، وابحث عن الحكمة، واجعلها ضالّتك :
انتقد الناسُ الأنبياء والخلفاء والملوك وعِظام القادة الخالدين، فتحملوهم، وأخذوهم بالرفق واللين، وكانوا أحيانا يستفيدون من سهام النقد اللاذعة الموجعة الجريئة الصريحة، ويطلبون المشورة والرأي السديد والنصيحة، ويشكرون من يهدي إليهم العيوب، وما زالت صرخة امرأة في وجه عمر بن الخطاب، أو تهديد بتقويم معوجّه بالسيوف، ما زالت مثل هذه الأمثلة النابغة النابعة من العلاقة السوية النقية بين الراعي والرعية، تملأ علينا الجِناب، وتطل من وراء سُجف الغيوب، لعلنا نسمع ونعي ونتّعظ ونعتبر…..
وسّع صدرك، فذاك أولى لك ألف مرة من أن توسع سجنك.
” وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ “
التعليقات مغلقة.