خالد مشعل.. “عاد من الموت” ليقاوم
كلما جاء ذكر محاولة اغتياله، التي توافق يوم 25 أيلول/سبتمبر 1997، كان يتحدث باحترام كبير عن نبل العاهل الأردني الراحل الملك الحسين بن طلال.
صلب ومرن معا، محاور يوصد الباب ويفتحها ولا يقطع خيط الود مع من يختلف معهم.
كان ذلك الطالب النشط اللافت للانتباه لكل من رآه في جامعة الكويت.
شاب متوقد يمتلك قدرة لافتة على المجادلة والنقاش وإثارة دوائر الكلام والسؤال.
كانت ترتسم على وجه ابتسامة رجولية خجولة، عرف عنه ثقافته الواسعة، وإطلاعه وقراءاته المتعددة.
خالد مشعل، المولود عام 1956 في قرية سلواد قضاء رام الله، كان والده عبد الرحيم مشعل أحد المجاهدين الذين شاركوا في مقاومة الانتداب البريطاني وفي الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.
تلقى التعليم الابتدائي في سلواد حتى عام 1967 حيث هاجر مع أسرته إلى الكويت، والتحق في فترة مبكرة جدا من حياته بجماعة “الإخوان المسلمين” وكان ذلك في عام 1971.
قاد أثناء دراسته الجامعية ما بين عامي 1974 و 1978 التيار الإسلامي الفلسطيني في جامعة الكويت، وشارك في تأسيس “كتلة الحق الإسلامية” التي نافست قوائم حركة فتح على قيادة الاتحاد العام لطلبة فلسطين في الكويت، تلك الكتلة التي سرعان ما تحولت بعد تخرجه إلى ما عرِف بـ”الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين”.
ووفقا لمشعل نفسه فقد كانت هذه الرابطة من اللبنات التمهيدية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي بنيت لبناتها الأولى في قطاع غزة والضفة الغربية والخارج، و”كان جسم الحركة يتشكل هنا وهناك”. بحسب قول مشعل. وقد وصفه مراقبون بقولهم: إن “مشعل لديه القدرة البارعة على صياغة مواقف حماس بعبارات منطقية”.
عمل بعد تخرجه من جامعة الكويت وحصوله على بكالوريوس في الفيزياء، مدرسا في الكويت.
وساهمت فترة الدراسة الجامعية في الكويت في تكوين شخصية مشعل وتنمية قدراته، كما شهدت بزوغ نجمه وسطوع اسمه.
ولم يأت عام 1987 إلا وكان مشعل مع الرعيل الأول في تأسيس حركة حماس عام 1987، وكان واضحا تأثير الخارج الفلسطيني في بناء أهم حركة سياسية ومقاومة في فلسطين والوطن العربي، وأصبح عضوا في المكتب السياسي للحركة منذ تأسيسها، وعضوا نشطا فيها، ولعب دورا سياسيا محوريا في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حتى انتخب عام 1996 رئيسا للمكتب السياسي للحركة.
غدا شخصية من أكثر شخصيات “حماس” ظهورا في الإعلام العربي وحتى الغربي، وكان واجهة سياسية خارجية للمقاومة في فلسطين، وفجأة ودون مقدمات ولا تهديدات مسبقة على وسائل الإعلام وغيرها، قرر الاحتلال اغتيال مشعل في عمان على أيدي عملاء جهاز “الموساد”.
ولم يأت اختيار مشعل ليكون في دائرة الاستهداف مصادفة، فقد لمست قيادة الاحتلال تأثيره القوي على المشهد الفلسطيني برمته داخليا وخارجيا، والدور المحوري الذي يقوم به، وبعد تتبع الاحتلال لمصدر التأثير، وصل إلى نتيجة بأن قيادة الخارج ومشعل هي من تحرك المقاومة والمظاهرات والاحتجاجات الشعبية في فلسطين.
واقترح طبيب إسرائيلي يعمل في “وحدة الكيمياء الحيوية” استخدام مشتق كيميائي مخدر من نوع قوي من الفنتانيل، كانت المادة المختارة قاتلة لدرجة أن بضع قطرات منها كانت كافية للتلامس مع الجلد والتسبب في موت مشعل، وكان من الصعب أيضا اكتشاف المادة في تشريح الجثة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو أشرف على العملية، وبناء عليه دخل عميلان للموساد إلى الأردن بجوازات سفر كندية مزورة، تحت اسم “شون كيندال” و”باري بيدز”، وأقام الاثنان في فندق إنتركونتيننتال في عمان واستأجرا سيارة. وقاما بمهاجمة مشعل بحقنه بمادة سامة أثناء سيره في شارع وصفي التل (المعروف باسم شارع الجاردنز) في عمان، وكان ذلك في 25 أيلول/ سبتمبر عام 1996.
وكانت الخطة المتفق عليها هي أن يقترب عميلان من الموساد من مشعل من الخلف، وبينما سيفتح أحدهما علبة صودا مهزوزة للتمويه، يقوم الآخر برش خالد مشعل بالسم القاتل المختار، واقترح أعضاء الوحدة التكنولوجية الإسرائيلية على العملاء أخذ مصل سام معهم في حالة الحاجة.
تم تنفيذ الخطة عند خروج مشعل من سيارته لدخول العمارة التي يقع فيها مكتبه لكن الصرخات المفاجئة لابنة مشعل من السيارة والتي لمست خطورة الموقف، دفعته إلى الالتفات إلى الوراء في اللحظة الذي قام به أحد العميلين برش المادة السامة.
واكتشفت السلطات الأردنية محاولة الاغتيال المعروفة باسم “العملية سايروس”، وقامت بإلقاء القبض على اثنين من عناصر “الموساد” المتورطين في عملية الاغتيال، وفرعملاء آخرين تواجدوا في الضواحي إلى السفارة الإسرائيلية التي حاصرتها القوات الأردنية.
عندما علم نتنياهو بفشل العملية، أرسل رئيس الموساد داني ياتوم، للتحدث مع الملك الحسين، وفي محادثة للملك الحسين مع ياتوم، أبلغ الملك، ياتوم أنه إذا مات مشعل، فسيتعين عليه الحكم على عميلي الموساد بالإعدام.
واضطر نتنياهو إلى استدعاء إفرايم هليفي، الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب سفير الاحتلال لدى الاتحاد الأوروبي، وأصبح فيما بعد رئيس الموساد للقاء الملك حسين.
وطالب الملك من نتنياهو المصل المضاد للمادة السامة التي حقن بها مشعل، وعندما ماطل نتنياهو أخذت محاولة الاغتيال بعدا سياسيا، فخير الملك ، نتنياهو بين “السلام” وحياة مشعل “المواطن الأردني” بحسب وصف الملك الحسين، وقام الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بالتدخل، وأرغم نتنياهو على تقديم المصل من أحد المشاركين في العملية، واسمه ميشكا بن ديفيد، الذي كان في يده مضادا للسم وكان في الأردن وقام بتسليم الترياق للأردنيين لإنقاذ حياة مشعل .
وأكثر من ذلك فقد رضخت تل أبيب لطلب الملك الحسين بإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، المحكوم بالسجن مدى الحياة في السجون الإسرائيلية، والسماح بعلاجه في عمان وضمان عودته إلى فلسطين.
وصف الرئيس كلينتون، رئيس الوزراء الإسرائيلي بالكلمات التالية: “لا أستطيع التعامل مع هذا الرجل، إنه مستحيل”.
فيما بعد تبين أن ضابط جهاز “الموساد” حجاي هداس هو من خطط لمحاولة اغتيال مشعل وله شركة أمنية خاصة مع شريك سويسري وكلفه نتانياهو بملف الجندي جلعاد شاليط.
والواقع أن فشل هذه العملية لم يمنع الاحتلال من مواصلة عمليات الاغتيال وانتهاك سيادة دول العالم، فقد تمادى الاحتلال كثيرا في جرائمه لأنه يعرف مسبقا أنه سينجو من العقاب وسيفر من ساحة الجريمة دون أدلة تدينه .
وبعد العملية بثلاث سنوات تقريبا اعتقلت السلطات الأردنية مشعل، وبعد قرار إغلاق مكاتب “حماس” في الأردن، أفرج عن مشعل وغادر مع ثلاثة آخرين من قيادات الحركة إلى قطر في عام 1999.
واستقر بعد ذلك في العاصمة السورية دمشق، وبعد اغتيال الشهيد الشيخ أحمد ياسين، أعلنت الحركة في عام 2004، انتخاب مشعل رئيسا.
وفي عام 2006 ألقى مشعل خطابا من دمشق إثر انتصار الحركة بأغلبية مقاعد البرلمان الفلسطيني، وفي خطابه أعرب عن مواصلة الكفاح المسلح وعدم تخلي “حماس” عن سلاحها، وتوحيد سلاح الفصائل الفلسطينية وتشكيل جيش وطني يدافع عن فلسطين والفلسطينيين. ودعته الحكومة الروسية إلى موسكو بهدف إقناعه بالتخلي عن سلاح المقاومة وتحويل “حماس” إلى حزب سياسي والاعتراف بدولة الاحتلال، إلا أن المحاولات الروسية باءت بالفشل.
زار مشعل قطاع غزة لأول مرة في عام 2012، منذ مغادرته الضفة المحتلة وعمره 11 عام، وكان في استقباله قيادات فلسطينية ووطنية لدى وصوله معبر رفح، وخرجت الجماهير الفلسطينية لاستقباله على طول الطريق حتى وصوله إلى مدينة غزة.
وبقي “أبو الوليد” رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس منذ عام 1996 وحتى عام 2017 حيث ترك الحركة وخلفه في الموقع القيادي إسماعيل هنية.
ثم عاد اسمه إلى الواجهة وعناوين الأخبار عقب انتخابه رئيسا للحركة في إقليم الخارج، في ظروف إقليمية معقدة وخانقة تمر بها القضية الفلسطينية .
لقد كانت علاقة مشعل بصفته القائد السياسي لـ”حماس” بالأردن محكومة بطبيعة التوازنات السياسية في المنطقة، وكان مشعل يرى أن “معركة الدفاع عن هوية الدولة الأردنية هي في ذات الوقت معركة الفلسطينيين من أجل تحررهم واستقلالهم الكامل في مواجهة عدو مشترك”.
وهو يرفض ويحارب فكرة “الوطن البديل” أو “توطين اللاجئين” أو مصادرة حق العودة.
الأردن بالنسبة لـ”أبي الوليد” ليس ساحة، ولا هو مجرد أرض للحشد والرباط، وإنما “وطن نهائي ومستقر للشعب الأردني”. والأردن يعني له أكثر من دولة عربية شقيقة، إنها المكان الذي “استعاد فيه الحياة بعد أن رأى الموت بعينيه” إثر محاولة اغتياله على يد “الموساد”.
يبدو حتى لأعدائه منطقيا ومحاورا ذكيا حين يتحدث عن موقف “حماس” وعلاقاتها بمن حولها عربيا وإسلاميا، فهو يرى أن “حماس، جزءا أصيلا من أمتها، تراعي في موقفها مجمل الأوضاع العربية والإسلامية بعيدا عن التبعية والإلحاق، وقد نجحت حماس في تكريس معادلة متوازنة في علاقاتها العربية والإسلامية”.
وقد تمكن “أبو الوليد” من نسج شبكة علاقات متينة بين “حماس” وبعض الدول العربية والإسلامية، والمنظمات والهيئات، وكان دائما أمام تحد مستمر، تحدي الحفاظ على استقلالية قرار الحركة وابتعادها عن سياسة الاستقطاب العربي والإسلامي، وتحدي مواصلة المقاومة على أرض فلسطين، والأهم رفع الحصار على غزة .
وطيلة عمله في السياسة والحياة العامة لم ينسى أن يثقف نفسه ويقوى صلته بخالقه فهو يحمل إجازة في القرآن الكريم بسند متصل إلى الرسول الكريم برواية حفص عن عاصم على يد الشيخ عبد الهادي الطباع. كما أتقن أحكام التجويد على يد الشيخ محمد عبد الرحمن أحد علماء الأزهر الشريف.
وشارك “أبو الوليد” في صياغة الفكر السياسي لحركة حماس وتطويره، وتكريس ملامحه في الوسطية والانفتاح والحوار والتسامح والوحدة الوطنية والشراكة مع الآخرين، مع التمسك بالثوابت والحقوق الوطنية، والتأكيد الدائم على حق الشعب الفلسطيني في أرضه وقدسه وفي مقاومة الاحتلال.
مرت عليه سنوات من الكفاح السياسي ودعم المقاومة وتوجيه بوصلتها لوجستيا ونجاته من الموت، وبقي ذلك القائد الهادئ الذي يجلس بكل ثقة وسط عدسات المصورين محتفظا بابتسامته التي فتحت له الطريق عندما كان طالبا بجامعة الكويت التي ساهمت في تكوين شخصيته وشهدت قمة عطائه ونضجه الفكري والحركي والسياسي.
(قدس برس)
التعليقات مغلقة.