لا تصدّق // د. حفظي اشتية
قالوا: أعِلنْ الثورة على ظالميك، وحاربْ إخوة دينك، وكن معنا لنأخذ بيدك فتستردّ سيادة قومك، وتحرر وطنك، وتستعيد مجدك وهويتك ولغتك وملكك….لكنهم نكثوا، وتنكروا لوعودهم، وتآمروا، وتقاسموا الأوطان، ومنحوا درّتها لشذّاذ الآفاق ولصوص العتمة، فتهاوت الآمال آهات ألم وخذلان في قبرص، وجراحات شرف وكبرياء وإباء في ميسلون.
لا تصدّق.
قالوا: استقبِلوا هؤلاء المهاجرين المساكين، وترفّقوا بهم، واستفيدوا من خبرتهم، فغلبتْنا مروءتنا وطيبة قلوبنا، ففعلنا، فتغلغلوا فينا، وعندما أحسسنا بالقلق، وبدأنا مقاومة الخطر الداهم، واجهونا بعدالتهم الزائفة، فواصلوا الدعم للغرباء وشدّوا على أيديهم، وفتحوا أبواب الهجرة لهم، ودرّبوهم وسلّحوهم وأعدّوهم لليوم الموعود، وقمعونا وأرهبونا وأمعنوا فينا قتلا وسجنا وتفريقا وفتنة ووعودا خلّبا عبر لجان تغدو وتروح، وتقارير تتوالى، وقرارات تسوّد بها الصحائف، بينما الأرض تتسرب من بين أيدينا ومن تحت أرجلنا، وصحونا على كابوس النكبة الأولى، رغم بطولات المدافعين من أهل البلاد، وشرفاء جنود الجيوش العربية، والمتطوعين النبلاء النبهاء الذين أدركوا مبكرا أن رأس الحربة السامّ قد انغرس في قلب المشرق العربي، وهيهات منه النجاة!! فبعد أقل من عشرين سنة كان الطلع السرطاني يمتد ويستشري ويجثم على كامل فلسطين بقدسها الشريف، ويستشرف من سيناء قاهرة َالمعزّ وأهرام مصر ونيلها العظيم، وتشتمّ العجوز الشمطاء رائحة خيبر، بينما جنودها المعتدون يتربعون على جبل الشيخ، يمعنون النظر صباح مساء في دمشق بني أمية وجبل قاسيون.
لا تصدّق.
قالوا: اخرجوا من بيروت، وأنقذوا المدينة والمدنيين من هول الحروب ومآسي الحصار، وتأكدوا أنكم ستقبضون الثمن عاجلا بالعودة إلى الوطن. كبرنا على جراحنا، وكابرنا على آلامنا، وصعدنا السفن نرفع شارات النصر تحت أزيز الرصاص، وسيول الدمع، وزخّات الأرز والورد، فتقاذفتنا الأمواج العاتية، وتفرقنا أيدي سبأ في أربع رياح الأرض، وذقنا مرارة التيه بعيدا عن نسائم فلسطين، وأحلامُ العودة تصدح في أرواحنا، وتضجّ طبولا بين حنايا الضلوع.
لا تصدّق.
قالوا: ساعدونا على تدمير بغداد لنخلصكم من “العنجهية” العربية، وفور انتهاء المهمة سيكون موعدنا معكم هناك في مدريد، في أندلسكم، مهد تاريخكم المجيد، ومجدكم التليد، ففعلنا، وتراكضنا إلى هناك، وكل منا يظن أنه في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، خطبنا كثيرا وطويلا، وطرنا فرحا كلما صفقوا لنا، بينما كان القزم الماكر ينظر إلينا بعين الساخر، وهو يقول : سأجعلهم يفاوضون عشر سنين دون أن يظفروا مني بأي شيء. وكنا نستكثر العشر سنين، وما خطر في خيالنا أنها ستكون عشرات تليها عشرات من السنوات، نفاوض، ونحن في أماكننا محنطين نترقب ماء من سراب.
تناول كلٌّ منا صحيفة سلامِه في شِماله، بعد أن كان قد تداعى من قبل عمود البيت”مصر” العظيمة، وعدنا فرحين مهللين بأننا حافظنا على حدودنا، واسترددنا حقوقنا، وتعالت الزغاريد في غزة وأريحا، وانتظرنا بركات السلام والرخاء الاقتصادي وإقامة الدولة الموعودة واستقبال اللاجئين العائدين….. لكن سرعان ما تشظّت أحلامنا، وتناثرت آمالنا، وظهر لنا جليّا أننا كنا في غياهب الجهل عندما وثقنا بوعودهم وعهودهم وتواقيعهم….. فتحولت البلاد إلى مزق وأشلاء وسيادة هزيلة عليلة، وفُرقة مريرة بين أخوة الدم والهم والألم.
لا تصدّق.
الآن ها نحن نعود من حيث بدأنا.
سيقولون : إن هذه الفئة المقاومة فئة ضالّة مضلّة، وحشية همجية، جنتْ على شعبها، فما عليكم إلا أن تطلقوا أيدينا في استئصالها واجتثاثها من جذورها. ساعدونا في ذلك، فليرحلْ هذا الشعب الذي اعتاد الرحيل من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق، ثم نقذفه ليذوق التيه الذي جربناه في سيناء لنكمل مهمتنا في ذبح المدافعين عنه، ونحميه من بطش حضارتنا وإنسانيتنا!! فقد ساعدناه بتدمير كل بذور الحياة في وطنه، وأذقناه كل طعم للموت، وكل صنف للجراح، وطبّقنا عليه بأمانة شريعة يوشع، وعندما نفرغ من مهمتنا يكون قد ألِف المكان الجديد، واستقرّ منتظرا قرارات أممية جديدة، ومؤتمرات دولية عتيدة….. لا تصدّق، لا تصدّق، لا تصدّق.
نحن جميعا في محنة بوجود هذا الطلع الشيطاني والغرب الظالم الغاشم، وليس أمامنا الآن إلا مواجهته بموقف موحد حازم حاسم، يرفض فعله دون مجاملة، ويفضح انحيازه، ولا ينصاع لنصائحه الخبيثة، ثم نسعى بعد ذلك بجدّ ودأب وصبر وعزيمة إلى امتلاك القوة بكل أشكالها : العلمية والاقتصادية والصناعة الحربية والعسكرية، والإيمان بكل أركانه : الإيمان بالله والدين والوحدة والحق، وبناء شخصية الإنسان العربي الحرّ المنتمي لأمته ووطنه، المدرك لخطورة عدوه، المتسلّح بإرادة الصمود والدفاع حتى آخر رمق عن حقه.
وإلّا، فإنّ القادم حتما سيكون أقسى وأخطر وأصعب، وسيطالنا جميعا، نعم جميعا، دون أدنى رحمة.
التعليقات مغلقة.