تعريب قيادة الجيش العربي.. تحولات عميقة أنارت تاريخ الأمة
ينير يوم تعريب قيادة الجيش الذي صادف أمس، تاريخ الأمة، رافعا راية الفخر والاعتزاز في قلوب الأردنيين، ويتجدد الإعجاب ويستحضر الذهن ذكريات وإرث الأمجاد وصانع نصر الكرامة جيش البناء والإعمار، وجيش الإنسانية والسلام.
نقرأ في صفحات المجد هذا القرار الجريء الشجاع في تاريخ المملكة، بإعفاء الضباط الإنجليز من قيادة الجيش، وعلى رأسهم رئيس الأركان الفريق جون باجوت كلوب، واستبدالهم بضباط أردنيين، فكان القرار بظروف ذلك الوقت قرارا مصيريا وإنجازا نوعيا للقيادة الهاشمية الحكيمة على مستوى الوطن العربي بشكل خاص ودول العالم الثالث بشكل عام.
ويعكس تاريخ تعريب القيادة العسكرية في الأردن لحظة تحفيزية مهمة، حيث تجسدت إرادة الحفاظ على الهوية العربية وتعزيز الوحدة الوطنية، إذ يعد يوم تعريب قيادة الجيش العربي الأردني محطة مهمة في مسيرة بناء الدولة وتطويرها، فهو يمثل استمرارا لترسيخ القيم الوطنية والروح القتالية في صفوف الجيش.
وقد تحدث جلالة المغفور له الملك الحسين -طيب الله ثراه- في افتتاح الدورة العادية الرابعة لمجلس الأمة الخامس في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 1959، يقول: “إن قواتنا المسلحة هي درع البلاد وأمل العرب وقمة في الشرف والخلق العسكري، ومثل يحتذى في المراس والتدريب وقوة الشكيمة، وستظل بعون الله كما كانت أهلا للأمانة التي تحملها، في الصمود أمام كل الأخطار حفاظا على أنفسنا، وعلى الوطن العربي كله”.
هذه هي القوات المسلحة الأردنية التي تفخر بأن تحمل اسم الجيش العربي، ومعه المجد الصاعد من إرث التاريخ وشرعية القيادة ونبل النسب، فقد تكون الجيش العربي الأردني في عام 1921، وتأسس على عقيدة ومبادئ ورسالة تحدرت إليه منذ فجر الرسالة النبوية الشريفة والاستمرار لجهاد آل البيت الأطهار عبر التاريخ، حتى فجر الرسالة النهضوية في مطلع القرن العشرين، ليكتمل عقد النهضة بثورة كبرى تسعى للمجد والاستقلال والسيادة يقودها خلاصة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصر لها العرب الأخيار والأغيار.
يقول الحسين طيب الله ثراه، واصفا الجيش العربي الأردني: “أما الجيش العربي، القوات المسلحة الأردنية، فدرع الوطن، وحماة الراية، أمل الأمة ومفخرة الأردن، وقرة عين الحسين، وهو جيش الثورة العربية الكبيرة، الجيش المصطفوي، الذي لا بد أن يعمل أبدا من أجل أن يبقى في قمة قدراته واستعداده تجهيزا وتدريبا في كل الظروف، وهو جيش الشهداء الأبرار والرجال الأخيار الأطهار الذائد عن حمى مؤتة، وأرض المعارك الخالدة، الواقف فـي وجه التحدي وهو الحامي بعون الله عمق الوطن العربي”.
وصلت القوات المسلحة الأردنية إلى مرحلة متقدمة في التطور والتنظيم، وواكبت التحديث في العلوم العسكرية في كل مجالاتها، هذه القوات التي ابتدأت عام 1921 بمجموعة من رجال الثورة العربية والنهضة تحلقوا حول الأمير عبدالله المؤسس في معان، وانطلقوا في رحلة التأسيس حتى دخلت هذه القوات عمان في الثاني من آذار 1921، لتكون البداية المباركة تحت علم يخفق منذ القدم يحمل معاني الشرف والوحدة والكرامة، ويتحدث عن عصور الدولة العربية.
وكان يوم التعريب عرسا وطنيا، فانتشر الفرح في كل البلاد الأردنية بضفتيها حينها، وتهلل الوجه الأردني، وارتفعت الرايات تعلن وكأن يوم الاستقلال الأكمل هو ذلك اليوم، وأن الدنيا بأسرها ترى فيه العزة والكرامة، فعم الفرح والبشر الوطن، وابتهج العرب في كل مكان لهذه الخطوة الجريئة التي وصفها الجنرال كلوب في كتاب له صدر عام 1980 أنها “أجرأ خطوة وأذكى قرار لقائد في الشرق الأوسط”، وعبر العرب في كل مكان عن فرحتهم بما حدث، أرسلوا البرقيات وكتبوا في الصحف، ونطقوا بحقيقة أن في الأردن وطنا عزيزا وقيادة أعز، وشعبا أغلى قد التقوا على حب الخير للعرب وحب الوطن، وأن الحسين يرحمه الله قد أثبت للجميع أن الحجم والمساحة والعدد والعدة ليست هي وحدها معيار القوة الكافية، وأن القوة الأكفأ هي الإرادة والعزيمة والشجاعة وصدق النوايا والتوجه.
يتفوق الأردن على نفسه، ويصعد فوق إمكاناته، ويسمو في العلا يعلن للعالم أجمع مدى قوة الوطن الأردني ومتانة الشعب الأصيل الذي يرى المستقبل المشرق الذي يجب أن يكون وجهه عربيا بعروبة الثورة العربية الكبرى نقيا بنقاء أهدافها وساميا بسمو قيادتها التي تورث المجد والعزة لسلسلة القيادة، ويرسمون درب الصلاح والفلاح، وقد عبر خطاب جلالة المغفور له الملك الحسين في خطابه التاريخي في 2 آذار 1956 عن بهجة الانتصار للوطن والأمة يزف البشرى للعرب أجمعين، ويقول جلالته “وأنت أيها الشعب الوفي هنيئا لك جيشك المظفر الذي وهب نفسه في سبيل الوطن، ونذر روحه لدفع العاديات عنك مستمدا من تاريخنا روح التضحية والفداء، ومتمرسا نهج الألى في جعل كلمة الله هي العليا، إن ينصركم الله فلا غالب لكم والسلام عليكم ورحمـة الله وبركاته”.
مستشار معالي وزير الاتصال الحكومي ومدير التوجيه المعنوي الأسبق العميد المتقاعد ممدوح سليمان العامري، قال: “في هذا اليوم المبارك، أرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك إلى مقام جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم القائد الأعلى للقوات المسلحة الأردنية- الجيش العربي، وولي عهده الأمين الأمير الحسين بن عبدالله الثاني بمناسبة الذكرى الثامنة والستين لتعريب قيادة الجيش العربي”.
وأضاف: “نستذكر باعتزاز القرار التاريخي الشجاع لجلالة الملك الباني الحسين بن طلال طيب الله ثراه، والذي شكل نقطة تحول في تاريخ الأردن، واكتملت به معاني الحرية والسيادة الوطنية؛ فكان قرار تعريب قيادة الجيش بداية الانطلاقة القوية للجيش العربي على وحي من رسالة الثورة العربية الكبرى ومبادئها في النهضة والحرية والحياة الفضلى”.
وأشار إلى أن قرار التعريب شكل انطلاقة قوية ومرتكزا صلبا ليس نحو بناء الجيش العربي فقط، وإنما لتطوير مؤسسات الدولة المختلفة وتحقيق آمال وطموحات أبناء الوطن، حيث اكتمل القرار السيادي الأردني بكل ما فيه من استحقاقات في مختلف المجالات، فالقوات المسلحة هي كبرى مؤسسات الوطن وواسطة العقد، وهي معقد الرجاء حين تدلهم الخطوب.
ولفت إلى أنه منذ توليه سلطاته الدستورية، أولى جلالة الملك المعزز عبدالله الثاني حفظه الله، الجيش، الاهتمام والرعاية، حتى غدت قواتنا المسلحة أنموذجا في البذل والعطاء والتضحية والإقدام، هاجسها على الدوام أمن الوطن واستقراره والمحافظة على منجزاته.
وبقدر ما هي مناسبة للاحتفال والاحتفاء بما تحقق من منجزات تنموية وحضارية على ثرى هذا الوطن المعطاء، فهي كذلك فرصة لشحذ الهمم وتقوية العزائم للمضي قدما على طريق البذل والعمل، والجد والاجتهاد لتعظيم الإنجازات والحفاظ على المكتسبات لتنعم الأجيال اللاحقة بالحياة الحرة الكريمة والنماء والاستقرار والازدهار.
وبين أن جلالة الملك أكد على ثقته واعتزازه وفخره بمنتسبي القوات المسلحة عندما خاطبهم بأنهم “الأصدق قولا والأخلص عملا”، سائلا المولى -عز وجل- أن يحفظ جلالة الملك ذخرا للوطن، وأن يكلأه بعين رعايته، وأن يديم على الأردن وشعبه نعمة الأمن والاستقرار والازدهار، إنه نعم المولى ونعم النصير.
الخبير العسكري العميد الركن المهندس أيمن الروسان، قال: “بين الذكرى والإنجاز تطل علينا المناسبات الوطنية، هي مجتمعة وتشرق من جديد، ذكرى تعريب قيادة الجيش، إذ لم يكن حدثا عابرا أو قرارا مرحليا ينتهي في لحظة، فهو من الأحداث التاريخية التي ما تزال أحداثها قائمة إلى يومنا هذا”.
وبين أن القرار له ارتباط بالزمن الماضي والحاضر والمستقبل، وبداية لمرحلة التطوير والتحديث والنهوض والبناء لهذا الجيش، ليكون بمستوى الطموح الوطني والقومي.
ولفت إلى أنه بمقاربة لازمة وبالأمس القريب، وعلى خطى جلالة الراحل الكبير المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، سار جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله، بقرارات والده الشجاعة والأكثر جرأة، فقد تابعنا جميعا أحد الإنزالات المشرفة في إنزال جوي للمساعدات على غزة والتي قادها عمليا، وعلى متن إحدى طائرات الجيش العربي، جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، والماضي الأبعد نستذكر معركة الكرامة الخالدة، إذ كان مفتاح النصر فيها تعريب الجيش العربي المظفر.
وأشار إلى أن الأردنيين يستذكرون بكل معاني الفخر والاعتزاز، ذكرى قرار تعريب قيادة الجيش الذي لم يكن يتوقعه أحد، ففي الأول من آذار عام 1956 الموافق ليوم الخميس تحديدا، اتخذ المغفور له بإذن الله جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، قراره التاريخي بتعريب قيادة الجيش وإعفاء الجنرال كلوب من منصبه، بالإضافة إلى بقية القيادات الإنجليزية؛ ليبقى الجيش العربي درة المؤسسات الوطنية بقيادته الهاشمية المظفرة، فهو قرار لملك شاب لم يمض على توليه سلطاته الدستورية ثلاث سنوات، لكنه قرار عنفوان الشباب دون النظر إلى نتائجه في ذلك الوقت العصيب.
وأضاف “أن القرار ذو رؤية بعيدة، ليكون هذا الجيش صمام أمان الوطن وسوطه القوي وسياجه المنيع ودرعه الذي لا يثلم، فكان الجيش العربي أول مداميك الوطن الصائبة وأول من نهض بالقطاع التعليمي في الوطن بحاضرته وأطراف باديته، وأول من نهض بالقطاع الصحي، يتنفس في كل القطاعات الناجحة، ويسري في كل الشرايين الدافقة، بفضل الرعاية الهاشمية الذي أريد له أن يكون جيشا عربيا مقداما يحمل راية الثورة العربية الكبرى”.
وفي السياق ذاته، بين أن قرار المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، يعد قرارا سياديا بحتا، وخطوة على المسار الصحيح لاستقلال الأردن من النفوذ الأجنبي، ونقطة تحول مهمة في تاريخ العرب الحديث، ودافعا قويا للأردن للدفاع عن استقلاله وكرامته وحريته، وقد أتاح هذا القرار للأردن بسط سيادته السياسية على كل إقليم الدولة ومؤسساتها، وأعاد الهيبة للجيش والأمة بامتلاك حريتها، وصنع قرارها، فرحم الله الحسين الرحمة الواسعة.
اللواء الركن المتقاعد الدكتور محمد خلف الرقاد مدير التوجيه المعنوي الأسبق وأستاذ العلوم السياسية، أشار إلى أنه في الأول من آذار 1956 على الصعيدين السياسي والعسكري، كان إنجازا وطنيا لجلالة المغفور له الملك الحسين -رحمه الله- الشاب المتحمس لبناء وطنه وتطويره وتحديث دولته وقواته المسلحة، إذ اتخذ قراره التاريخي بتعريب قيادة الجيش العربي بإعفاء الجنرال كلوب من منصبه كرئيس أركان الجيش العربي.
وقال اللواء الرقاد “يمكنني وصف القرار بأنه كان قرارا تاريخيا جريئا حازما متوازنا يهدف إلى تحقيق المصالح العليا للدولة الأردنية، وكان قرارا سياسيا بثوب عسكري استكمل فيه جلالة الملك الحسين متطلبات السيادة الوطنية وتعزيز مرتكزات الاستقلال”.
بالرغم من أن القرار جاء في ظل بيئة سياسية وعسكرية صعبة، إلا أنه فتح آفاقا جديدة لتطوير وتحديث الأردن وقواته المسلحة، إذ كانت البيئة السياسية والعسكرية مزدحمة بالتحديات، فالأردن ما يزال يعيش مراحل تعزيز الاستقلال الذي تم في الخامس والعشرين من أيار 1946، والأمة العربية والمملكة الأردنية الهاشمية ما تزال تعيش تداعيات حرب عام 1948، والتي نتج عنها سيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلي على أجزاء مهمة من فلسطين.
وعلى الصعيد السياسي، كان الأردن يستكمل متطلبات ونتائج مؤتمر أريحا الذي تم في نيسان 1950 وقضى بوحدة الضفتين الغربية والشرقية، وكان من أهم الأحداث في هذه البيئة استشهاد جلالة الملك المؤسس في العشرين من تموز 1951.
وحينما نودي بالأمير الحسين بن طلال ملكا على المملكة الأردنية الهاشمية، بعد تنحي والده عن الحكم لأسباب صحية، كان الحسين وقتها تلميذا عسكريا في كلية سانت هيرست، وكان يرى وجوب أن يتولى الضباط الأردنيون كل المناصب القيادية في وحدات وتشكيلات الجيش العربي، وقد أسر بذلك إلى الملحق العسكري الأردني في لندن في تلك الفترة.
وحينما تسلم سلطاته الدستورية كان مهتما بتحديث وتطوير الجيش العربي، وحينما رأى بأن الجنرال كلوب يتبنى استراتيجية دفاعية كان جلالته كشاب متحمس يرى أن هذه الاستراتيجية يجب أن تكون هجومية؛ ولهذا اختلف مع الجنرال كلوب على هذه الاستراتيجية، وكلفه بإعداد استراتيجية متطورة تتحول إلى هجومية لحماية مصالح الأردن العليا وتحقيق أهدافه الوطنية وأن تشتمل على إعطاء فرص وإمتيازات تقضي بأن يتولى الضباط الأردنيون مزيدا من المناصب القيادية في الجيش العربي، فكان الجواب من الجنرال كلوب أنه ممكن أن يحصل الضباط الأردنيون على مثل هذه الامتيازات في المستقبل ولكن ليس قبل عام 1985 بمعنى أنهم يستطيعون تولي المناصب القيادية بعد 29 عاما.
وأضاف: عندها صمم جلالة الملك الحسين على إعفاء الجنرال كلوب وأخذ قراره التاريخي بتعريب قيادة الجيش في الأول من آذار عام 1956 وصدرت الإرادة الملكية السامية بترقية العميد راضي عناب إلى رتبة لواء وتعيينه رئيسا للأركان.
وقال اللواء الدكتور الرقاد: لقد أحدث هذا القرار السياسي بثوب عسكري صدى واسعا عميقا على صعيد السياسة الخارجية والداخلية، وعلى الصعيد العسكري، وعلى الرأي العام الداخلي والخارجي في الأردن، وكانت إجابة جلالته -طيب الله ثراه- على هذا الصدى بقوله:” إن الرأي العام كان يجهل أن قضية عزل الجنرال كلوب من منصبه، كانت قضية أردنية تماما، لأن كلوب كان قائدا عاما للجيش العربي الأردني، وكان يعمل لحساب حكومتي”.
وقد نفذ مجلس الوزراء توجيهات جلالة الملك الحسين بقراره رقم 198 تاريخ 1 آذار 1956، وتم إعفاء الجنرال من منصبه ومعه كل القادة الإنجليز، وغادر الجنرال كلوب في اليوم الثاني مطار عمان في ماركا إلى قبرص ثم إلى لندن.
وأشار الرقاد إلى أن لهذا القرار انعكاسات إيجابية على الصعيدين السياسي والعسكري في مجالات تطوير وتحديث مسيرة الأردن وفتح الآفاق بشكل أرحب أمام التعاون العسكري مع الدول الشقيقة والصديقة، وفتح الأبواب على مصراعيها لتنطلق الكفاءات العسكرية من الضباط الأردنيين في تطوير جيشهم العربي لا بل مهد أيضا لقرارات أخرى مهمة، حيث تم إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية التي كانت تفرض بعض القيود على سيادة القرار العسكري، فصدرت الإرادة الملكية السامية بإلغائها عام 1957.-(بشرى نيروخ- بترا)
التعليقات مغلقة.