المضافات والدواوين في الموروث الشعبي
الباحث محمود حسين الشريدة
–
بقلم / الباحث محمود الشريدة
المقدمة :
كان للمضافات الشعبية دورا في البناء الاجتماعي والثقافي ومواجهة المشكلات التي تعترض حياة الناس ، كما لعبت دورا تعليميا في تكرس القيم النبيلة وتعليم آداب الحديث والاحترام بين الناس وحسن استقبال الضيوف ، وحماية المستجير والدخيل ، وإيواء ومساعدة المحتاجين . كما كانت تجمع أهالي البلد لتداول الأحاديث المتعلقة بحياتهم وسرد الحكايات والأشعار والقصائد ومعالجة المشكلات وحل الخلافات ، والاتفاق على مسائل الزواج وغيرها الكثير من القضايا المجتمعية.
آداب ارتياد المضافات :
وعن آداب وتقاليد المضافات الشعبية ، يقول الدكتور محمد محمود السيوف ابو جهاد – مدينة عنجره ، تبقى للمضافات خصوصية ترتبط بعادات وتقاليد أهلها وتبقى رمزا للكرم والأصالة وتكريس القيم النبيلة ، وشاهدا حيا على وقائع وأحداث الناس ، ويراعى في المضافات آداب وأعراف غير مكتوبة ولكنها متفق عليها بين الناس ومنها : يستقبل المعزب ضيفة على باب المضافة بقولة أهلا وسهلا ، الله محيي الضيف ، وإدخاله إليها أمامه ، والترحيب به وحسن الاستماع للحديث ، والجلوس فيها بأدب وتواضع ، وتُقدم القهوة للضيف قبل أن يدور الحديث بينهما ، وتكريس الوقت لتلبية احتياجات الضيوف ، والوقوف لكل من يدخل إليها حتى يأخذ مكانا للجلوس ، وبقاء المعزب واقفا يرحب بضيوفه إلى أن يسمحوا له بالجلوس ، وعدم مغادرة الجالس فيها قبل الاستئذان من صاحبها ، وعدم التلفظ بالكلمات النابية أو التكلم عن خصوصيات الناس .
دور المضافات الاجتماعي :
وعن الدور الاجتماعي للمضافات الشعبية يقول الشيخ عقاب أحمد العنانزة مواليد عام 1941م مدينة كفرنجة : كان للمضافة أهمية كبيرة في حياة المجتمع العجلوني ، لما تقدمه من أدوار مختلفة، وخاصة في المجالات الاجتماعية والإنسانية والثقافية، في الوقت الذي مازالت تحافظ فيه على عادات الكرم وحسن الضيافة ، وكان من أهم الأدوار الاجتماعية التي كانت تؤديها المضافة سابقا هو عمليات التواصل والتعارف التي تتم بين قاصديها، والأحاديث المتداولة فيها، والتي تناقش شؤون البلدة أو العشيرة، سواء فيما يتعلق بالزراعة أو الحصاد أو المواسم بشكل عام، وفيها تعقد الجاهات اجتماعاتها للتوفيق بين الأطراف المتخاصمة .
كما تؤدي دوراً ثقافياً حيث يتم تناول القصص والسير الشعبية المختلفة وإلقاء القصيد والشعر الشعبي، وتتحول سهراتها إلى أمسيات شعرية، وحفلات فنية من خلال الغناء الجماعي الشعبي والعزف على الربابة.
كانت المضافة ظاهرة من ظواهر المجتمع العجلون ، وهي بيئة تعارف وتثقيف، ومناخ هام لغرس القيم والأفكار والمثل العليا، وفيها يصاغ السلوك الاجتماعي القويم وينتقد الذميم، وتدار فناجين القهوة العربية، ويتبادل الناس أمور حياتهم اليومية، ويناقشون المشكلات الاجتماعية العالقة، ويتخذون فيها القرارات المهمة ، أو حل لمشكلة اجتماعية لعشيرة أخرى ، وتعد المضافات مدرسة هامه لتعليم أمور الحياة ، وهي فرصة يتعلم فيها الشباب وصغار السن أهم الدروس ، وكما يقال “المجالس مدارس” . وقد خرجت المضافات قادة اجتماعيين وسياسيين كان لهم دور كبير في قيادة مجتمعاتهم وحل جميع القضايا التي تنشأ في مجتمعاتهم بطرق سهله ترضي جميع الأطراف وتحقن كثير من الدماء ،علاوة على ذلك كانت المضافات تعكس الهوية الأردنية من خلال الأعراف والقيم والكرم والشهامة التي كانت تُطبق فيها .
محتويات المضافة :
وعن محتويات المضافة الشعبية يحدثنا الحاج احمد عبد الرحمن الشريدة مواليد عام 1939م من بلدة الوهادنة ، كانت المضافة سابقا تؤسس في بيت وهو ما اصطلح على تسميته هذه الأيام بالبيت التراثي المبني من الحجر الدبش والطين ، أتحدث ألان عن خربة الوهادنة ( الوهادنة حاليا ) التي اسكُنها ، ويشرفني أن والدي الشيخ عبدالرحمن الشريدة ، كان لدية مضافة فيها منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي ، ووصفي للمضافة كما شاهدته في مضافة والدي أو المضافات الأخرى التي عاصرتها في بلدي منذ نعومة أظفاري .
وعلى الرغم من محدودية منازل الأسر واقتصارها على حجرة واحدة عند اغلب الناس ، إلا أن شيخ العشيرة أو وجيه ربعة يبني حجرة مستقلة في ناحية من نواحي بيته تخصص للضيوف وتبنى بمساحة واسعة مبنية من الحجر والطين ، ويراعى في تصميمها أنها في واجهة الدار ، ولها مدخل مستقل عن مدخل الأسرة ومدخل المواشي ، وتصميمها على شكل مربع أو مستطيل وبفناء واسع ليستوعب اكبر عدد من الزائرين ، ويُحمل سقف المضافة على قناطر حجرية ارتكازيه ، تعتبر روعة في الفن المعماري القديم، يعلوها سيقان الأشجار وفوقه التراب والطين ، أما جدرانها فكانت تطلى من الداخل بالطين تعلوه طبقة من الكلس (الشيد ) الأبيض، ويكون شكلها الداخلي على سوية واحده ، مصطبة واحده واسعة من الطين ، ويترك أمام الباب من الداخل مساحة صغيرة تنخفض بمعدل درجة واحدة عن المسطبة ، تركن فيها الأحذية ، لان من آداب الجلوس في المضافة أن يكون الجميع حافي القدمين .
وفي بعض الأحيان تبنى المضافة في فناء واسع مبني من الحجارة المشذبة ويرتكز السقف على عدد من القناطر المتلاصقة تنتهي بقبة قليلة الميلان تسمى ” العقد ” وهذا يتوقف على الحالة الاجتماعية والاقتصادية لصاحب المضافة .
تفرش مسطبة المضافة بعدد من البسط (المفارش ) والفجج الصوفية ، وفوق البسط تفرش فرشات الصوف وعليها المخدات ، وبعض الجواعد المصنوعة من جلود الخراف ، ويراعى في ذلك النظافة التامة لكل مقتنيات المضافة .
يوجد بعض الأحيان عند مدخلها وعلى أحد طرفيها خزانة جداريه تستخدم لوضع مستلزمات الضيافة، يتدلى من وسط سقفها سلسله معدنية يعلق به المصباح الزجاجي الفانوس أو “اللوكس”، ويعلق على أحد الجوانب ظبية القهوة وظبية البهار .
يوجد في المضافة كانون حديدي أو ما يسمى المنقل المصنوع من النحاس، يوضع فيه الحطب المشتعل، وفوقه معاميل القهوة العربية، وهي عبارة عن أباريق نحاسية تسمى المعاميل ، وعددها ثلاثة دلال ، الأولى تسمى الطباخ وهو للقهوة ” البكر” والثانية “للتشريبة” والثلثة “للثنوة” بالإضافة للبكرج الذي يوضع فيه القهوة بعد غليها بالدلال، ويوضع على المنقل أو بجانبه إبريق شاي كبير الحجم ، مصنوع من المعدن المطلي بالقيشاني الأزرق ، وعلى جانبي المنقل توضع فناجين القهوة والكاسات وطنجره نحاسية، يوضع فيها الماء لغسل الكاسات والفناجين، وبالقرب من المنقل توضع المحماسة ومبردة القهوة والمهباش ، كما يستعيض البعض عن المنقل في وسط المضافة بحفرة مستطيلة الشكل يقال لها “النقرة”، وهي أكبر بقليل من المنقل ، يوضع بداخلها الفحم أو الحطب المشتعل .
صب القهوة العربية :
عن كيفية صب القهوة العربية للضيوف يحدثنا عنها يقول الشيخ محمود فريحات ابو ذياب من بلدة راجب : على صباب القهوة مسك البكرج بيده اليسرى والفناجين بيده اليمنى ، وان يقف احتراما وتقديرا للضيوف ، ويبدءا بصب القهوة وهو واقف ، ثم يمد الفنجان بيده اليمنى ، وعلى الضيف أن يصحح جلسته ويتناول الفنجان بيده اليمنى أيضا .
وفناجين القهوة ثلاثة أنواع : فنجان الضيف ، وفنجان الكيف ، وفنجان السيف ، وتسبق هذه الفناجين فنجان الهيف ، على المضيف أن يهف (يشرب) الفنجان الأول من دله القهوة أمام الضيف ، ليطمئن بأن القهوة جيده ، ومن ثم يطمئن الضيف بأنها خالية من الخديعة كالسم مثلا .
الخلاصة :
المضافات والدواوين الشعبية إرث أردني ومشرقي قديم ومتأصل في الثقافة والسلوك الاجتماعي؛ ولعلها اتخذت طابعاً منظماً منذ القرن التاسع عشر في الأردن وفلسطين وبلاد الشام عموماً إبان الحكم العثماني حيث لا وسيلة للتعبير عن الموقف الاجتماعية والسياسية إلا من خلال تلك الأطر الاجتماعية ذات التكوين العشائري والمناطقي ، للتعبير عن الرأي والموقف ومنها انطلقت حركات التغيير الاجتماعي والسياسي عندما كانت وسائل التعبير السياسي منعدمة .
المصدر :
عبق التراث في متحف الوهادنة للتراث الشعبي ، كتاب مخطوط
معلومات قيمة جزاكم الله كل خير