بين الجسد والروح في العشر الأواخر
الدكتور رشيد عبّاس
بقلم /الدكتور: رشيد عبّاس
للعشر الأواخر من رمضان بُعد روحاني عظيم, يتم من خلالها الانتقال التدريجي من النفس المضطربة إلى النفس المطمئنة، وذلك من اجل أن تستنقذ الأرواح والأجساد معًا طوفانها من بحر العالم المادي الزائل, ولتزرع في النفس البشرية ايضاً مجموعة من الفضائل، والمثل العليا، والقيم الرفيعة، وتزكية النفس, والرحمة, والوقاية من الأمراض النفسية والبدنية، وتخفيف الهموم الاجتماعية, وأكثر من ذلك فان العشر الأواخر من رمضان استثمار بشري لتقلّيص مساحات المادّيّات الزائلة لصالح الروحانيات الباقية, فالفراغ الروحي لا يملأه المال، ولا السلطة، ولا المكانة، ولا المتعة, إن الفراغ الروحي لا يملأه إلا عبادة الله تعالى،..نعم العشر الأواخر من رمضان دورة مجانية في أدب الدعاء إلى الله وأدب رفع الاكف إليه.
والسؤال الكبير هنا, كيف ينبغي أن نكون بين الجسد والروح في العشر الأواخر من رمضان؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال نقول أن الإنسان بجسده وروحه يحتاج إلى إعادة بناء وتأهيل من جديد في كل عام كي تستمر الوظائف الموكلة له كانسان, وقد تبين أن ذلك يتم خلال عملية الصيام, فأثناء عملية الصيام يحدث للإنسان نوعين من التغيرات, التغير الأول فسيولوجي يتعلق بطبيعة الجسد، والتغير الثاني سيكولوجي يتعلق بطبيعة الروح، ولكي تنضج مثل هذه التغيرات التي يحتاجها الإنسان, فان الإنسان يحتاج إلى تغيير مستمر في أنماط حياته خلال فترة الصيام, ومن هذه الأنماط شهوات الجسد وغرائزه من أكل وشرب وجماع من جهة, وعلوّ الروح وسموّها من جهة أخرى.
في العشر الأولى من رمضان والمعنية بالتغيرات الفسيولوجية للجسد والتي تتعلق بكل من طبيعة شهوات الجسد وغرائزه, وعلوّ الروح وسموّها, تكون فيها شهوات الجسد وغرائزه (أقوى) من علوّ الروح وسموّها, أما العشر الثانية من رمضان والمعنية بالتغيرات الفسيولوجية فـ(تتساوى) فيها شهوات الجسد وغرائزه مع علوّ الروح وسموّها, في حين أن العشر الأواخر من رمضان والمعنية بالتغيرات الفكرية الروحية يكون فيها علوّ الروح وسموّها (أقوى) من شهوات الجسد وغرائزه.
في العشر الأواخر من رمضان ينتقل الإنسان من صوم شهوات البطن والفرج( الأكل, الشرب, الجماع,..), وصوم الجوارح (العين, الاذن, اللسان,..) عن المعاصي والآثام, ينتقل إلى علوّ الروح وسموّها من خلال أحياء الليل, وأيقاظ الاهل، والاجتهاد, والامتناع عن المعاشرة,..فكثير من الناس يعتقد أن الصيام هو مجرد أن يمتنع الإنسان عن الأكل والشرب والجماع فقط، إلا أن الصيام أكثر من ذلك، فهناك أيضًا صيام الجوارح عن المعاصي والآثام مثل صوم اللسان والعين والأذن حتى يكون الصيام كاملًا ولا يفسده شيء, وللوصول إلى التغيرات الفكرية الروحية من اجل أن تكون علوّ الروح وسموّها اقوى بكثير من شهوات الجسد وغرائزه, أمامنا فرص عديدة كأحياء الليل, والجد والمثابرة والتنوع في العبادة, وتشجيع الأهل على ذلك, ثم الامتناع عن المعاشرة.
في العشر الأواخر من رمضان يبدأ التنافس ما بين شهوات الجسد وغرائزه وعلوّ الروح وسموّها, فبعد انقضاء ثلثي أيام الصيام وبقاء الثلث الاخير تبدأ شهوات الجسد وغرائزه بالتعب والانهاك والضعف أمام علوّ الروح وسموّها, ومن اجل تحفيز الروح على السموّ والعلوّ جاءت قدرة الله في العشر الأواخر من رمضان أن جعل فيها أعظم ليلة على وجه الارض, ليلة مليئة بـ(الروحانيات), ليلة أنُزل فيها القران الكريم, وليلة هي خير من الف شهر, وليلة تتنزلُ فيها الملائكة والروح, وليلة هي سلام حتى مطّلع الفجر,..ليلة معطّرة بـ(الروحانيات) السامية, ليلة يتحرر فيه الانسان من شهوات الجسد وغرائزه, ليصل إلى أعلى مراتب العلوّ والسموّ,.. إنها ليلة القدر.
كان افضل خلق الله, رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان: أحيا ليلهُ.. وأيقظ أهلهُ.. وشد (مئزرهُ), كل ذلك من اجل ترك شهوات الجسد وغرائزه, والوصول إلى علوّ الروح وسموّها, ناهيك عن إعادة التوازن بين سموّ الروح, وإبداعات العقل من جهة, وبين غرائز الجسد وشهواته من جهة أخرى, ومعالجة الاختلالات بينها إن وجدت.
وبعد..
بين الجسد والروح في العشر الأواخر نكون أو لا نكون..