عائلة سرسق اللبنانية اول من باع اراض لليهود في فلسطين
مهدي مبارك عبدالله
=
بقلم // مهدي مبارك عبد الله
بعد مقتل الليدي ( إيفون سرسق كوكرن ) في انفجار مرفأ بيروت الاخير فتحت خزائن اسرار العائلة اللبنانية الاشهر في علاقتها بالحركة الصهيونية وتآمرها على بيع الاراضي في فلسطين
كثيرون في لبنان والاردن والعالم العربي ربما لم يسمعوا باسم هذه السيدة خلال حياتها لكن الجميع تقريباً مر أمامهم اسم عائلة سرسق الذي ارتبط بمجموعة من الأبنية الأثرية العائدة للقرن التاسع عشر في العاصمة اللبنانية والتي كانت من المباني الأخيرة التي حافظت على الصورة المتميزة لبيروت بعدما خربتها الحروب المتتالية ونَزَع جشع المستثمرين رونقها بعدغياب التخطيط من أبنيتها وشوارعها وانتزاع الروح والهوية من وجودها
بعد 27 يوماً على إصابتها جراء انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في 4 / 8 / 2020 توفيت الليدي كوكرن متأثرة بجراحها بعد حياة امتدت الى 98 عام عاشتها في قصر العائلة الذي شيده جدها موسى سرسق عام 1840 في منطقة الأشرفية وهو القصر الذي طاله الدمار بالكامل جراء الانفجار وتماشياً مع حياة عائلتها الأرستقراطية التي نسجت علاقات وطيدة مع العديد من الحكام الأجانب وعاشت بين لبنان وفلسطين ومصر تداخلت حياة هذه السيدة الفريدة مع أحداث عديدة ومفصلية في الشرق الأوسط
بعد وفاتها كتب كثيرون عن “الليدي” التي حملت ثلاث جنسيات هي البريطانية والإيطالية واللبنانية واشتهرت بين نساء بيروت بجمعها للأعمال الفنية وبأعمالها الخيرية ودعمها لمحميات ومواقع طبيعية
هي ابنة ألفرد بيه سرسق اللبناني الذي تزوج من الأرستقراطية الإيطالية دونا ماريا دي كاسانو وقد عاشت في نابولي والبيرو ولندن وإيرلندا وأماكن أخرى لكنها قررت تمضية ما تبقى من حياتها في بيروت حيث كان شغفها الأكبر العناية بالتراث المعماري والمحافظة عليه وبينما انشغل الإعلام العالمي بتجارب السيدة وتاريخ عائلتها كان ثمة “تفصيل” لم يحظ باهتمام كبير مع وفاة الليدي كوكرن أفرد له موقع ( غلوبز الإسرائيلي ) تحقيقاً واسعاً اعده الصحافي تال شنايدر
تحدث التحقيق بشكل دقيق عن الوثائق التي تكشف دور عائلة سرسق في تاريخ الحركة الصهيونية في فلسطين وكيف كانت للعائلة علاقات وثيقة مع قيادة الحركة الأولى ومع الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هرتزوغ وغيره من الزعماء والقادة الاسرائيليين
ينطوي تحقيق شنايدر على أحكام مسبقة في قراءة الوضع اللبناني كما يمكن القول بأن طريقة تقديمه للموضوع ليست أفضل ما كتب عن السماسرة الصهاينة والدور الذي لعبوه في عمليات الشراء من عائلات لبنانية بشكل أساسي لكنه يقدم تفاصيل ووثائق مهمة تنشر للمرة الأولى حول تلك الحقبة حيث شكلت وفاة الليدي كوكرن مناسبة للكشف عنها
أملاك عائلة سرسق في فلسطينوبحسب ما جاء في التحقيق كان والد الليدي كوكرن ( ألفرد بيه سرسق ) ابن إحدى أكبر العائلات المالكة للعقارات في الشرق الأوسط ووالدتها ( دونا ماريا ) من السلالة البابوية ومن أكبر العائلات الأرستقراطية في إيطاليا
وقد شمل ميراث العائلة مئات الآلاف من أفدنة الأراضي في مرج ابن عامر والجليل الغربي ووادي حيفر وحيفا ويافا ومن بين الأراضي المملوكة من قبل العائلة في حيفا كانت تلك التي تضم ضريح الباب البهائي اليوم وكذلك الشوارع الرئيسية في يافا ومئات الأفدنة حول ما يعرف اليوم بشارع إيلات في تل أبيب
بدأت عائلة سرسق بالاستحواذ على الأراضي في عام 1870 وذلك عندما باع العثمانيون الأراضي في فلسطين لرعايا الإمبراطورية وقتها اشترت العائلة ما لا يقل عن مئتي ألف فدان في فلسطين كان بينها 50 ألف فدان في مرج ابن عامر
وفي عام 1891 دخل ناشطون صهاينة في مفاوضات مع عائلة سرسق لشراء الأراضي وهكذا تمكن قادة الحركة الصهيونية ومنهم يهوشوا هانكين ولورانس أوليفانت وآرثر روبين بدعم الصندوق القومي اليهودي والمنظمة الصهيونية العالمية شيئاً فشيئاً من شراء العقارات
وبحسب ما تظهر الوثائق أعدت عائلة سرسق عام 1925 قائمة طويلة من معاملات البيع وفيها مناطق مدينة حيفا السفلى و2500 فدان في وادي بيت شيعان و7500 فدان في وادي حيفر وهكذا قامت مستوطنات مرحفية ومزرا وتل عدشيم وكفر يحزقيل وتل يوسف ونهلال وعين حرود وغيرها على أراض تم شراؤها من عائلة سرسقفي ذلك الوقت تعامل ألفرد سرسق مع يهوشوا هانكين الذي كان ملقباً بـ (مخلّص الأراضي ) نظراً لتوليه معظم عمليات الشراء للمنظمة الصهيونية العالمية وكان سرسق يلتقيه في بيروت وقد وثقت ابنة أخت هانكين ( تسيلا شوهام فاينبرغ ) رحلات العمل التي كان يقوم بها خالها إلى لبنان
ومن بين ما كتبته فاينبرغ بعد رحلة رافقت فيها خالها إلى بيروت وشاهدت خلالها توقيعه على صفقة أرض إضافية برغم المعارضة القوية من مكونات متطرفة وقومية في العالم العربي وبرغم التهديدات التي لاحقته لا شك لدي أنه لولا المساعدة الكبيرة التي تلقاها يهوشوا هانكين من عائلة سرسق بمختلف الطرق إضافة إلى بيع الأراضي لما تمكن من الاستحواذ على الوادي وتسيلا هي شقيقة ( أفشالوم فاينبرغ ) الذي أسس شبكة NILI السرية للتجسس والتي ساعدت البريطانيين ضد العثمانيين بين عامي و1915 و 1017
في عام 1946 تزوجت إيفون سرسق من السير ديزموند كوكرن، وهو نبيل إيرلندي كان يشغل منصب القنصل العام لبلاده في بيروت وبعد نكبة عام 1948 وإعلان قيام دولة إسرائيل كان قد بقي لعائلة سرسق بعض العقارات والأراضي في يافا وحيفا لكن السلطات الإسرائيلية وضعت اليد عليها ووجه قرار الليدي كوكرن باسترجاع الأراضي بالرفض
وفي عام 1966 كررت السيدة طلبها من دون نتيجة كما حشدت دعم الجالية اليهودية في بريطانيا من خلال التأكيد على أن عائلتها ساعدت اليهود في الاستحواذ على الأرض وإقامة مشروعهم لكن دون نتيجة كذلك حيث لم تكن الدولة الوليدة راغبة في تحقيق سابقة لقضية يحصل فيها مواطن لبناني لديه سجل عثماني مثبت على الأرض على اعتراف بالأرض أو حتى تعويض وفي أواخر الستينيات أوكلت الليدي كوكرن القضية للمحامي حاييم هرتزوغ الذي أصبح لاحقاً رئيساً لإسرائيل
الذي حاول التركيز على كون الليدي كوكرن مواطنة دول عدة وعلى مسألة مساعدة عائلتها للمنظمة الصهيونية في تأسيس دولة إسرائيل وهي ذات خصوصية استثنائية لعائلة عارضت منظمة التحرير الفلسطينية ونفوذ السوريين كما انها واحدة من العائلات العربية القليلة التي تواصلت مع المشروع الصهيوني ودعمته
ورغم انها كانت تعتبر قضية خاسرة لدى مكتب المحاماة فوكس ونيمان وهرتزوغ ولا يمكن فعل شيء حيالها الا ان هرتزوغ راجع وزير الخارجية الإسرائيلي حينها آبا إيبان وكانت تجمع الاثنان علاقة مصاهرة حيث ضمّن المحامي الإسرائيلي طلباً بمراجعة اللجنة الخاصة بأملاك الغائبين للإفراج عن أصول السيدة كوكرن وبحسب الوثائق يظهر أن جميع أعضاء اللجنة باستثناء ممثل وزير الخارجية صوتوا ضد الطلب لعدم وجود سوابق إفراج عن أصول غائبين من الرعايا الأعداء من سكان دولة عربية
كل الإجراءات التي تمّ اللجوء إليها في ذلك الوقت للإفراج عن الأصول ووجهت بالرفض وبعدها استقالت الحكومة وتسلّم موشي ديان وزارة الخارجية في الحكومة الجديدة فيما رفض اتخاذ موقف صريح من المسألة من جهته تابع هرتزوغ الاستئناف أمام محكمة العدل العليا واستمرّ في جمع الشهادات كما استعان بابنه مايكل هرتزوغ لجمع معلومات عن عائلة سرسق من أكثر من عشر كتب لإثبات أن قضية تلك العائلة ليست مجرد قضية ملكية غائبين عاديين
وفي صندوق الوثائق كانت هناك رسالة من الرئيس اللبناني كميل شمعون بتاريخ 8 أيار 1980 يعبّر فيها عن دعمه لقضية الليدي كوكرن ويقول إلى من يهمه الأمر أعرف تمام المعرفة الليدي كوكرن وعائلتها والدها ألفريد سرسق كان صاحب نفوذ كبير ولطالما اتبعت الليدي كوكرن نهجاً وطنياً حازماً وواضحاً الأمر الذي عرضها للمخاطر إذ حاربت احتلال لبنان أكان من قبل منظمة التحرير الفلسطينية أو القوات السورية وقامت بذلك من خلال الصحافة والإعلام
لم يكن واضحاً من رسالة شمعون الجهة التي طُلب منه التوجه إليها تحديداً فيما علق رئيس الوكالة اليهودية الحالي إسحاق هرتزوغ وهو نجل حاييم هرتزوغ قائلاً هذه واقعة مذهلة تعاون فيها رئيس لبناني ووزير خارجية إسرائيلي في قضية قانونية
بعدها قدم هرتزوغ للمحكمة العليا حجة الجنسية الفعالة مشيراً إلى أن الليدي كوكرن متزوجة من دبلوماسي إيرلندي فتمكن من إقناع المحكمة بأن إقامتها في لبنان كانت لضرورة دبلوماسية
بعد نكبة عام 1948 كان قد بقي لعائلة سرسق أراض في يافا وحيفا وضعت السلطات الإسرائيلية اليد عليها مسارٌ قانوني طويل خاضته إيفون سرسق كوكرن مع محام يهودي أصبح لاحقاً رئيساً لإسرائيل حصلت في نهايته على تعويض مادي وشكر لمساهمات عائلتها في دعم الحركة الصهيونية
ومن بين كل التفاصيل المدهشة في القصة، حسب وصف كاتب التحقيق، كانت حقيقة قبول ادعاء السيدة كوكرن في النهاية بعدما قدم هرتزوغ للمحكمة العليا حجة الجنسية الفعالة عندما يكون الشخص يحمل عدة جنسيات
وقد شرح هرتزوغ حجته القانونية الفائز بها قائلاً ان زوج السيدة كوكرن كان دبلوماسياً إيرلندياً وقد أقنع هرتزوغ المحكمة العليا بأن إقامتها في لبنان كانت لضرورة دبلوماسية فحكمت بضرورة إعادة النظر في اللجنة الخاصة وبعد الحكم توصل هرتزوغ إلى اتفاق مع اللجنة على تعويض نقدي ليتم بعده الاتصال بكوكرن من خلال مكتب محاماة في لندن
وبشأن المبلغ الذي تقاضته كوكرن يبدو انه كان ضئيلاً للغاية خاصة وان املاكها كانت في مناطق ضخمة في يافا وحيفا وقد تم التوقيع على الاتفاقية المالية مع سلطة التنمية
أما بخصوص السبب وراء دعم عائلة سرسق للمشروع الصهيوني فقد كان لدى أفرادها اعتبارات تجارية ويجب ألا نغفل أن هذا التعاون سبق مرحلة القومية الفلسطينية حيث كان في تلك الأراضي مزارعون فلسطينيون وكانوا يعتقدون أن اليهودي القادم إلى إسرائيل سيكون مفيداً للمنطقة
وقد تسال الكثيرون باستغراب فيما اذا كان الوضع الاقتصادي والسياسي لعائلة سرسق ساعدها في الحصول على تعويض لأراضيها فماذا عن الفقراء الذين خسروا أرضهم والذين 99.99 في المئة منهم لن يحصلوا على شيء وحتى لو حصل سلام لن يستردوا أراضيهم بل قد ينالوا تعويضاً مالياً إذ يرتكز عمل كل المنظمات والمؤسسات في إسرائيل على عدم جواز التخلي عن الأرض
في نهاية التحقيق ان وريث الليدي كوكرن ابنها رودريك عرف بوصول غلوبز إلى ملف قضية والدته وقد أبدى اهتماماً بالحصول على الوثائق الأصلية الموجودة لدى شركة المحاماة بنما قررت الأخيرة نقل الملف إلى قسم الأرشيف في منظمة “ياد حاييم هرتزوغ” لحفظه بشكل صحيح
كما يلفت الكاتب إلى أن عائلة هرتزوغ ورودريك سرسق كوكرن لا يزالان على اتصال
وفي نهاية التحقيق، يقول إسحاق هرتزوغ كان والدي قلقاً جداً بشأن هذه القضية بسبب الجوانب الصهيونية الحساسة فيها الا ان والده كان يملك إحساساً متقدماً بالعدالة وبهذه الطريقة أراد شكر عائلة سرسق على بيع الأراضيكما قال بان والده تحدث لسنوات عن هذه القضية فقد أعادت ربطه بإيرلندا التي ولد أفراد من عائلته فيها، كما ربطت بيروت بحيفا وجمعت بين أديان مختلفةحتى باتت تفاصيلها تصلح لتكون حبكة فيلم شرق أوسطي جيد أما النهاية المأساوية لإيفون الليدي كوكرن فهي مثال فاقع أكثر من أي شيء آخر على أن الشرق الأوسط لم يتغيّر
واذا كان ما نشره موقع غلوبز لافتاً في سياق الدور الذي لعبته عائلة سرسق في بيع الأراضي لليهود فقد كان لعائلات لبنانية أخرى دور كذلك في تلك المرحلة وهو دور كتب عنه الفلسطيني غسان كنفاني في كتابه “الدراسات السياسية” الذي يذكر فيه بالأسماء العائلات اللبنانية التي باعت والمساحات التي بيعت
كما يذكر الراحل كنفاني كيف كانت أحوال الفلاحين الذي تشتتوا من الأراضي التي يعملون فيها بعد بيعها ومنها أرض مرج ابن عامر التي طُرد منها أكثر من 8000 فلاح فلسطيني بعدما باعتها عائلة سرسق لليهود
من جهته يذكر الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر بهذا الخصوص أنه عشية الحرب العالمية الأولى امتلك اليهود حوالي 400 ألف دونم أرض في فلسطين بينما بلغت مساحة ملكيتهم عشية النكبة 1734 ألف دونم ومن العائلات التي باعت أراضيها اضافة الى آل سرسق وآل الخوري وآل تيان وال سلام وال القباني وال التويني وال الصباغ وكانت معظمها من مرج ابن عامر وقرى في عكا وحيفا إضافة إلى عائلات سورية باعت أراضيها في الجولان وصفد ومن بيع الاراضي في الماضي انتقلنا اليوم الى بيع الضمائر والمواقف والمبادئ وعرض فلسطين كاملة للمتاجرة والبيع المجاني من خلال سياسات الانبطاح والتطبيع
mahdimubarak@gmail.com