ما الذي يجري في كوبا ولمصلحة من ؟
مهدي مبارك عبدالله
–
؟
بقلم / مهدي مبارك عبد الله
ربما كانت المسألة تتعلق بالوقت فقط بعدما نسجت خيوط المؤامرة بالكامل وتراكمت سحب الإحباط واليأس في نفوس المواطنين ثم انفجرت شرارة المظاهرات في جمهورية كوبا بفعل الغضب الاجتماعي الكبير حيث انطلقت من مدينة ( سان أنطونيو دي لوس بانيوس ) الى العاصمة هافانا والعدد من المدن الأخرى ضد النظام الشيوعي لم ( تشهدها البلاد منذ عقود ) وذلك احتجاجا على نقص المواد الدوائية والغذاء وفشل الحكومة في التعامل مع جائحة كورونا التي سجلت رقماً قياسياً بعدد الوفيات الناجمة عن هذا الوباء وهي أرقام مقلقة وتتزايد كل يوم حيث شارك الكوبيون على إنستجرام في جميع أنحاء العالم نشر صورةً مكتوبا عليها بأحرف كبيرة بيضاء وحمراء ( طلب المساعدة ليس جريمة ولكن إنكار ذلك هو الجريمة )
للحقيقة أن نظام الرعاية الصحية الاجتماعي في كوبا تعامل مع الجائحة منذ بدايتها تعاملًا أفضل من عديد من جيرانها والأكثر ثراءً منها حيث أرسلت هافانا أطباءَه مدربين تدريبا عاليًا إلى بلدان أخرى الا ان التداعيات الاقتصادية وتقلص الاقتصاد المتدهور الذي تديره الدولة بالإضافة الى العقوبات الأمريكية الجائرة والحصار المفروض عليها من عهد الرئيس ترامب بنسبة 11% والذي احدث اثار سلبية شديدة على الجزيرة حيث اصبحت تفتقر للقاحات الأساسية والمحاقن وأجهزة التنفس
ناهيك عن استمرار سياسة الخنق والتجويع وتفشي المرض دون الاصغاء لصرخات ومطالب المساعدة على الشبكات الاجتماعية او من خلال النداءات الموجهة إلى الحكومات الغربية لتسهيل إرسال وخول التبرعات الدوائية والغذائية بشكل عاجل ومع توقف روافد السياحة وقلة العملة الصعبة التي يعتمد كثيرون عليها في جلب الوقود والأسمدة اصبحت البلاد تعاني من أسوأ نقص في الغذاء والدواء منذ سقوط الاتحاد السوفيتي
ليس جديد سعى امريكا إلى زعزعة أمن واستقرار كوبا وتعميم صورة الفوضى الكاملة في البلاد اضافة الى حمايتها لعصابات الاجرام والمخدرات ودعمها لفرق المرتزقة والمعارضين الموالين لها والذين طالبوا مؤخرا بإنشاء ( ممر إنساني ) يهدف الى التمهيد لدخول المرتزقة وقوات الغزو الامريكي الى اراضي الجزيرة الكاريبية
الرئيس الكوبي ( ميغيل دياز كانيل ( الذي تولى الرئاسة خلفًا لمعلمه راؤول كاسترو عام 2018 في خطاب متلفز له القى باللوم في اندلاع المظاهرات على ( سياسة الخنق الاقتصادي الأمريكية ) واتهم ما اسماه بالمافيا الكوبية – الأمريكية بإثارة الاضطرابات الاجتماعية في البلاد وبين ابناء الجالية الكوبية في مدينة ميامي الأمريكية حيث تظاهر أكثر من 5 آلاف شخص تضامنا مع المحتجين في كوبا وقد دعا رئيس البلدية ( فرانسيس سواريز ) إلى تدخل عاجل تقوده الولايات المتحدة
الرئيس الكوبي حرض ايضا المواطنين وانصاره للخروج إلى الشوارع والدفاع عن الثورة في إشارة منه إلى ثورة عام 1959 التي قادها الرئيس الراحل فيدل كاسترو وذلك بالرغم من مطالبة المتظاهرين بإنهاء الحكم الديكتاتوري الشمولي القائم منذ 62 عام وهتافهم بعبارات صريحة ( نريد الحرية وكفى ما اصابنا ) اضافة الى قيام بعض المتظاهرين بقلب سيارات الشرطة ونهب المتاجر الكبرى ما دفع قوات الأمن الكوبية الى قمعهم واعتقال الكثيرين من بينهم بعض الناشطين ومشاهير المعارضة وهذا الاحتجاج المنسق على مستوى الجزيرة هو ( أول تحدٍ للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي ) في عصر الإنترنت
السفير البريطاني السابق في كوبا ( بول هير ) علق على ردة فعل الرئيس الكوبي على الاحتجاجات بقوله ان حديثه جاء مقتبسًا بالكامل من مبادئ فيدل وراؤول الرئيسان السابقان لكوبا حيث حكم الأول بثورة عسكرية من عام ( 1959- 2008 ) ثم خلفه أخوه في الحكم من ( 2008- 2018 )
الرئيس الامريكي جو بايدن أبدى دعمه العلني للمتظاهرين لكنه تجنب ذكر العقوبات الأمريكية المفروضة على كوبا والتي تعهد بمراجعتها خلال حملته الانتخابية حيث قال في بيان سابق له ( نقف مع الشعب الكوبي ودعوته الواضحة من أجل الحرية وتخفيف القبضة المأساوية للجائحة وعقودٍ من القمع والمعاناة الاقتصادية التي تعرضوا لها على يد النظام الاستبدادي في كوبا ) لكن بايدن بعد ستة أشهر من وصوله إلى البيت الأبيض لم تكن لديه اية مؤشرات تدل على أن مثل هذا التحول سيصبح قيد التنفيذ إذ ركزت إدارته على الجائحة وأولويات السياسة الخارجية الأخرى
وفي ذات السياق اكد بعض المسؤولين في البيت الأبيض إن ( تحولًا في السياسة تجاه كوبا ليس من بين أولويات الرئيس بايدن حاليًا ) وان ( جو بايدن ليس باراك أوباما في السياسة تجاه كوبا ) وعليه أدرجت وزارة الخارجية الامريكية كوبا ضمن قائمة الدول التي لا تتعاون على نحو كامل مع جهود الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب العالمي لتجدد بذلك القرار الذي اتخذته إدارة ترامب في عام 2020 والذي أعلن عنه قبل تسعة أيام فقط من تركه منصبه وفيالواقع لا يمكن تمييز بايدن تمامًا عن ترامب فيما يتعلق بالسياسة تجاه كوبا
التصعيد السريع للأحداث سلط الضوءَ على المراجعة البطيئة لإدارة بايدن ومساعيها السياسة تجاه كوبا بأحجامها الواضح عن تغيير إجراءات ترامب السابقة فعندما كان بايدن يشغل منصب نائب الرئيس وافق الرئيس باراك أوباما والرئيس راؤول كاسترو على إعادة العلاقات الدبلوماسية في عام 2014 ما أدى إلى أول مباحثات مباشرة ( وجهًا لوجه ) بين قادة البلدين منذ حوالينصف قرن من الزمن
وقد ساعد ذلك الوفاق التاريخي على تخفيف ورفع العديد من القيود المفروضة على العمل مع كوبا والسفر إليها وبعدما أُعيد فتح الرحلات الجوية المباشرة إلى كوبا في عام 2016 غطَّى السياح الأمريكيون الجزيرة وقد رحب معظم الكوبيين بالتدفق الجيد للدولار الأمريكي والذي أفاد السائقين وأصحاب المطاعم والعائلات العادية من خلال تأجير الغرف للسياح والتوسع في استخدام شبكة الإنترنت بسرعة مع ارتفاع دخولهم وفي عام 2018 تمكن الكوبيون من الوصول الكامل إلى الإنترنت على هواتفهم المحمولة لأول مرة في تاريخهم
العلاقة بين هافانا وواشنطن سرعان ما تدهورت في عهد ترامب الذي اوفى بوعده في حملته الانتخابية بإلغاء إجراءات أوباما التي قال عنها إنها ( عززت النظام الشيوعي الكوبي وأثْرَته ) حيث فرضت إدارته 240 عقوبة وإجراءً اقتصاديًّا بما في ذلك حظر توقف السفن السياحية الأمريكية في كوبا ومحاكمة الشركات الأجنبية التي تتعامل معها واصدار قائمة سوداء بعديد من الشركات الكوبية والتي تضمنت من بينها شركة ( Fincimex )وهي المؤسسة المالية التي يستخدمها الأمريكيون لإرسال تحويلاتهم إلى عائلاتهم واقاربهم في الجزيرة
الاقتصاد الكوبي يعاني من مصاعب كبيرة خاصة بعدما ضرب وباء كورونا السياحة التي كانت من أهم مصادر الدخل كما كان السكر الذي يعتبر من أعمدة الاقتصاد المهمة والذي اصبح شحيحاً بسبب قلة الوقود وانقطاع التيار الكهربائي ( محصول السكر الكاد وصل إلى ثلثي الإنتاج المخطط له هذا العام ) وهو أقل محصول منذ أكثر من قرن وبالتالي فقد ضعف احتياطي الحكومة من العملات الصعبة وظهر عدم قدرتها على شراء السلع الأجنبية لتعويض النقص كما كانت تفعل دائما وقد باتت الجزيرة على شفا هوة أسوأ نقص غذائي تشهده منذ 25 عام حيث اضحت ( رفوف معظم المحال التجارية فارغة بالكامل ) وفي الوقت نفسه ارتفعت حالات الإصابة بكوفيد-19 ودخول المستشفيات العاجزة عن تقديم الخدمات
في عام 2017 وبعد ما سمي بـ ( الهجمات الصوتية ) المزعومة التي اصيب جرائها أكثر من عشرين أمريكيًا في هافانا بإصاباتٍ دماغيةٍ غامضةٍ والتي ( أنكرت كوبا مسؤوليتها عنها ولم يتم تحديد أسبابها ختى الساعة ) بعدها عملت إدارة ترامب على تخفيض عدد الموظفين الدبلوماسيين الأمريكيين على نحو كبير وتبع ذلك صدور تحذير بالسفر من وزارة الخارجية يطلب من الأمريكيين تجنب السفر إلى كوبا ووفقًا لمسؤولين كوبيين مختصين ( كلفت إجراءات ترامب الجزيرة أكثر من 20 مليار دولار )
ادارة البيت الأبيض اعتبرت الاحتجاجات تعبيرا عفويًا من جانب الناس المرهقين من سوء الإدارة الاقتصادية وقمع الحكومة الكوبية وقد رفض البيت الابيض اتهامات الرئيس الكوبي بأن الكوبيين الأمريكيين والعقوبات الأمريكية هي جزءٌ من المشكلة رغم انه شيء واضح وجزء من الحقيقة وضمن الاجراءات لمعالجة بعض الاوضاع المتردية قال رئيس الوزراء ( مانويل ماريرو ) ان الحكومة الكوبية سمحت مؤقتاً للمسافرين القادمين إلى الجزيرة بجلب أغذية وأدوية ومواد للنظافة الشخصية في حقائبهم أياً كانت قيمتها وبدون أن يدفعوا رسوماً جمركية عليها ( هذا الإجراء سيسري حتى 31 كانون الأول القادم )
اليوم بدى جليا ان كوبا ليست من أولويات بايدن رغم انه خلال حملته الرئاسية تعهد بأنه إذا انتِخب رئيسًا للبلاد فإنه سيغير سياسات ترامب الفاشلة التي ألحقت الأذى بالكوبيين وعائلاتهم وان يعيد سياسات عهد أوباما في التعامل مع النظام الكوبي الا ان الواقع يثبت بان الادارة الامريكية ساندت وروجت للدعوات الموجهة من الخارج بإثارة ( الفوضى والعصيان المدني ) والاستفادة من الوضع الصعب في الجزيرة الكاريبية نتيجة تفشي الوباء وتكثيف الحصار الأميركي واتباع سياسة خنق اقتصادي لإثارة اضطرابات اجتماعية لتغيير النظام القائم
كل ما جرى ويجري في كوبا مخطط له منذ زمن بعيد وهو جزء من المؤامرة الأمريكية القديمة الجديدة التي تصب نتائجها في ( مصلحة الادارة الامريكية ) المتهم الرئيس بالتورط المباشر في تنظيم الاحتجاجات والاضطرابات التي تعيشها كوبا منذ ايام وما يثبت ذلك الدعوات التي ترعاها على وسائل التواصل الاجتماعي( للتدخل الإنساني ) في كوبا وما يعني ذلك من خطوة اولية
لفتح الباب أمام تدخل عسكري أمريكي لاحتلال الجزيرة ومن المفيد هنا التذكير بعملية غزو ( خليج الخنازير) الفاشلة في جنوب كوبا عام 1960عندما وافق الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور انذاك علي اقتراح CIA بدعم المعارضة الكوبية ضد النظام الشيوعي الجديد في كوبا بزعامة كاسترو حيث رفع الأمريكيين وقتها من سقف توقعاتهم بخصوص نجاح المعارضة في السيطرة على الحكم الا ان ( الجيش الثوري الكوبي ) بمقاومته البطولية والشرسة خيب امالهم وتوقعاتهم وعادوا يجرون خلفهم ذيول الهزيمة وقد كان لفشل العملية صدمة حقيقية كبيرة للقيادة العسكرية والمخابرات الأمريكية وللرئيس الأمريكي جون كينيدي نفسه
يذكر أن كوبا تخضع لحصار أميركي منذ ما يقارب 60 عام الأمر الذي حال دون وصول المساعدات الإنسانية إلى البلاد خلال الوباء وهو ما أدّى إلى تدهور في الأوضاع الاقتصادية في الفترة الأخيرة
بقي ان نقول في الختام ان من خرب كوبا في السابق ويدمرها اليوم هي سياسات امريكا العدائية ضدها حيث لا تزال تتدخل في كل شيء بشكل مباشر وغير مباشر كما ان كلّ المصائب التي حلت بكوبا هي من صنعها وهي تخالف علانية القوانين والمواثيق والاعراف والمعاهدات الدولية وتواصل التنصل من تحمل مسؤوليتها بل على العسك تعمل على تنظيم ودعم الاضطرابًات الاجتماعيًا داخل كوبا لتبريرها غزو البلاد عسكريًا عبر المساعدات الإنسانية
mahdimubarak@gmail.com