متحف الانسان الشاهد التاريخي على الاجرام الفرنسي
مهدي مبارك عبدالله
=
بقلم / مهدي مبارك عبد الله
بعيدا عن الانسانية وكرامة الاموات أطلقت عليه فرنسا ( متحف الإنسان ( أو متحف التاريخ الطبيعي وجمعت فيه 18 ألف جمجمة للثوار المسلمين في مختلف المستعمرات الفرنسية والذين قطَعت رؤوسهم ظلما وعدوانا حيث كانت تلك الجماجم البشرية في الازمنة الاستعمارية الغابرة تزيّن قصور حكام فرنسا ومن أهمها قصر الإمبراطور المتوحش نابليون الثالث الذي شيده بالأموال التي نهبها الجيش الفرنسي من الجزائر ووضع رؤوس الثوار الجزائريين الذين حاربوا مع الأمير عبد القادر الجزائري في مدخله كزينة يتفاخر بها امام ملوك أوروبا
الهدف الرئيس من تجميعها في هذا المتحف هو إثبات أن العنصر البشري الفرنسي هو الأرقى والأفضل لأنه تطور على نحو أسرع من الأجناس الأخرى ومن ثم فإن له الحق في أن يحكم العالم وأن يحصل على كل المكاسب والثروات وتلك هي الفكرة التي قامت عليها النازية التي ما زالت تحكم التفكير الأوروبي والأميركي حتى الآن لذلك تتمسك الجامعات الأوروبية والأميركية بتدريس نظرية دارون “النشوء والارتقاء”، إذ تقوم عليها رؤية أوروبا وأميركا للعلاقة مع الشعوب الأخرى
كما استخدم قادة الجيش الفرنسي جماجم قادة المقاومة الجزائرية لتزيين قصورهم وبيوتهم كأدلة على الانتصارات التي حققوها ورغم ادّعاء فرنسا العلمانية فإن المشاعر المسيحية كان لها دورها في تشكيل ظاهرة القسوة والوحشية في قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث والتباهي بتزيين القصور بجماجم المقاتلين والمدنيين المسلمين ولهذا لا ينظر من قبلهم الى هذا المتحف كدليل على جريمة عنصرية ضد الإنسانية بل يعتبر وسيلة لتسويغ الاستعمار والسيطرة الغربية كما يفسر في الوقت الراهن تعامل أميركا وأوروبا بمعايير مزدوجة مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ يتم التعامل مع الشعوب غير الغربية على أنها غير مؤهلة للديمقراطية وهذا يشكل استمرارية لحالة خطورة الاستكبار والاستعلاء التي قام عليها الفكر الاستعماري منذ البداية
لقد كثرت التساؤلات في الماضي والحاضر لماذا أُنشئ هذا المتحف المشين ولماذا أطلق عليه متحف الإنسان تحديدا يذكر انه في عام 1937 قام عالم فرنسي يدعى ( بول ريفييه ) وهو متخصص في الأنثروبولوجيا بإنشاء هذا المتحف وقام بجمع الجماجم من قصور الملوك والقادة الفرنسيين واختار لهذا المتحف موقعا متميزا بالقرب من برج إيفل وقد حصل على دعم كبير من الحكومة الفرنسية بهذا الخصوص كما سوّغ بول ريفييه إنشاء المتحف بأنه يهدف إلى إثبات أن العنصر الأوروبي هو أصل البشرية، ودراسة تطور الكائن البشري تلك هي ( العنصرية الفرنسية ) البغيضة
ولذلك ينبغي أن تعي شعوبنا العربية الحقائق وأن يقوم الباحثون بإعادة كتابة التاريخ الاستعماري لتوضيح تاريخ تعامل أوروبا مع الشعوب كما ينبغي أن يكفّ المثقفون المتغربون عن الدعاية لفرنسا ومشروع التنوير الأوروبي المزعوم والذي يتضح كل يوم أنه كان العامل الرئيس في فرض الضعف والتخلف على الشعوب المستعمرة
إن بقاء هذا المتحف حتى اليوم يجسد الإهانة الكبرى للكرامة الانسانية حيث يضم جماجم أبطالنا الذين تفخر أمتنا بمقاومتهم للاحتلال الفرنسي في الجزائر منهم بعض القادة في جيش الأمير عبد القادر الجزائري الذي قاوم الاحتلال الفرنسي أكثر من 15 عاما واستطاع أن يقهر فرنسا ويهزمها في كثير من المعارك حتى اضطرت فرنسا إلى الاستغاثة بالدول الأوروبية باسم المسيحية وجمعت كتائب الجيوش الأوروبية بأسلحتها المتقدمة وقامت بإحراق القرى الجزائرية حتى صادف وجود الأمير عبد القادر الجزائري في إحدى القرى التي تعرضت للحرق فنجح الجيش الفرنسي في أسره ونفيه وقطع رؤوس ضباط جيشه ليزيّن بها الإمبراطور نابليون الثالث مدخل قصره
قبل سنوات قليلة تمكن عالم جزائري اسمه علي فريد بلقاضي من تحديد 500 جمجمة لثوار جزائريين منهم جمجمة ( الشيخ بوزيان ) الذي تولى قيادة ثوار الجزائر بعد الأمير عبد القادر الجزائري عام 1849 لكن الجيش الفرنسي استخدم قوته الغاشمة في القضاء على ثورته كي لا يتطلع شعب الجزائر إلى تكرار تجربة الأمير عبد القادر
حبن حاصر الجيش الفرنسي القبائل التي كان يقودها بوزيان في واحة وقطعوا أكثر من 10 آلاف نخلة وأعدموا المئات من النساء والأطفال بقطع رؤوسهم وعلقوا جماجم الشيخ بوزيان وابنه والشيخ موسى الدرقاوي على أبواب بسكرة بهدف نشر الرعب بين الجزائريين وذلك قبل أن يحملوا تلك الجماجم إلى باريس كدليل على انتصارهم الذي لم يتوقف عند هذا الحد فقد أحرقوا من هربوا إلى الجبال أو قتلوهم بدخان الحرائق التي أشعلوها في المنطقة
الجيش الفرنسي كان يرسل رؤوس القادة فقط إلى باريس للتفاخر وأن الجماجم التي تحتفظ بها فرنسا في متحف الإنسان هي رؤوس قادة المقاومة الذين تفخر الأمة الإسلامية بكفاحهم وبطولاتهم واستشهادهم وقد تفاخر الجنرال ( إميل هيربيون ) قائد الحملة الفرنسية بأنه قتل كل السكان في منطقة بسكرة ولم يتمكن من النجاة سوى رجل أعمى وعدد قليل من النساء وكان قطع الرؤوس وسيلة للانتقام والإرهاب فالشيخ بوزيان مثلا قطع رأسه بعد إعدامه بالرصاص وبعد ما أُعدم ابنه الذي كان يبلغ من العمر 15 عاما أمامه
هناك الكثير من القبائل العربية الجزائرية التي أبادها الجيش الفرنسي مثل بني رياح وهذا ما يؤكد أن الجيش الفرنسي كان يستهدف القيام بعملية تطهير عرقي بحرق القرى والجبال لتحقيق هذا الهدف وهناك أيضا رؤوس ثوار من بلاد أخرى فعلى سبيل المثال قامت فرنسا بقطع رؤوس 400 من العلماء المسلمين في تشاد يوم 15 تشرين الثاني 1917 بالسواطير بعد أن دعتهم إلى مؤتمر للتوصل إلى اتفاق لإدارة المنطقة ثم غدرت بهم وأسرتهم واعدمتهم وكان الهدف من ذبح هؤلاء العلماء فتح المجال للبعثات التبشيرية وقد تفاخر الفرنسيون بهذه المذبحة وهناك ايضا الكثير من المذابح التي ارتكبتها فرنسا ضد المسلمين في أفريقيا ومن المؤكد أن المتحف يضم الكثير من رؤوس رجالاتها
وفي هذا المتحف توجد جمجمة الشهيد البطل سليمان الحلبي الذي تمكن من قتل القائد الفرنسي ( كليبر ) الذي تولى قيادة الحملة الفرنسية بعد هرب نابليون من مصر بعد أن دك منطقة الأزهر بمدافعه وقتل الكثير من العلماء والطلاب الابرياء حيث تم إعدام الشهيد سليمان الحلبي باستخدام الخازوق وهو أكثر وسائل الإعدام وحشية وقسوة ثم اخذوا جمجمته التي تنقلت بين قصور أباطرة فرنسا حتى استقرت في هذا المتحف ولم تجد حتى الآن من يطالب باستعادتها لدفنها في تراب مصر التي دافع عنها وضحّى بحياته من أجل تحريرها
واقع هذا المتحف بتاريخ فرنسا الاجرامي والوحشي يوضح أن البشرية كلها لا بد من أن تكافح للتحرر من العنصرية الغربية لفضح زيف الدعاية الأوروبية التي ملأت عقول المتغربين العرب وطمست بصيرتهم فنادى بعضهم بالاحتفال بذكرى الحملة الفرنسية متجاهلين دماء الآلاف من الشهداء المصريين وملايين الشهداء الجزائريين والمسلمين في أفريقيا
كما أن هذا المتحف يمكن أن يقدم لنا الكثير من الحقائق الصادمة والصور البشعة عن ظلم فرنسا وهمجيتها وتاريخها الأسود وعارها الذي ستظل الشعوب تذكره إلى الأبد ويوضح كذلك أن الرجل الأبيض عندما امتلك القوة الغاشمة استخدمها في إبادة البشر وقطع رؤوس قادة المقاومة الجزائرية التي لم تتوقف منذ عام 1830 حتى انسحب جيش فرنسا من الجزائر
وان وجود هذه الرؤوس هو دليل قاطع على أن الأمة ترفض الخضوع للاستعمار وأنها كانت دائما قادرة على المقاومة والتحدي وتحقيق الانتصارات ومع كل ذلك لا بد الان من القيام بحملة إعلامية عربية واسلامية ودولية لاستعادة هذه الجماجم لتدفن في الأرض التي كافحت لتحريرها والدفاع عنها إن بقاء وجود جماجم ثوّارنا وقادتنا في هذا المتحف إهانة لكرامتنا والأمة كاملة اليوم تحتاج إلى الكثير من العلماء الذين يعيدون كتابة التاريخ ويشكلون وعي عام بحقيقة الاستعمار ويقدمون للعالم القصة الحقيقية لشعب الجزائر الأبي الثائر الذي ظل يقاوم القوة الفرنسية الغاشمة 132عام حيث بلغ عدد الشهداء الذين قتلهم الجيش الفرنسي في الجزائر بلغ 5.5 ملايين وفق ما أعلنه مؤخرا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون
والسؤال المطروح هنا امام هذا الواقع الاجرامي والدموي هل يمكن للعالم الذي يدّعي الحضارة أن يتسامح مع دولة قتلت نصف سكان الجزائر خلال فترة احتلالها ونهبت ممتلكاتهم في ابشع جريمة ضد الإنسانية ستظل وصمة عار في جبين قوى الاستعمار وهي جرائم لا تسقط بالتقادم وتحتاج الى المحاسبة والعقاب فضلا عن استرجاع جماجم قادة المقاومة الموجودة في متحف الإنسان في باريس وتشكيل رأي عام عالمي ضد المذابح الذي ارتكبتها القوى الاستعمارية خلال القرون الثلاثة الماضية
لاستعادة حقوق الدول الأفريقية والآسيوية التي خضعت للاستعمار وتحديدا قضية شهداء الجزائر التي يجب أن تتحول إلى قضية عالمية يتبناها الإعلاميون والكتّاب والعلماء الأحرار في العالم كله فجريمة فرنسا في الجزائر ليست قضية بين الجزائر وفرنسا فقط لكنها قضية عالمية يجب أن يتفاعل معها كل الأحرار ويعلنوا رفضهم للجرائم ضد الإنسانية من اجل بناء ثقافة عالمية جديدة تؤكد على حرمة الحياة الإنسانية ومحاسبة كل من يرتكب جريمة ضد الإنسانية بعيدا عن الذاكرة الجمعية المشحونة بمشاهد الدماء والقتل والمجازر والتخريب والتدمير التي قام بها الجيش الفرنسي
من جديد نؤكد بإن الكشف عن حقائق المذابح التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر يمكن أن يساهم أيضا في تشكيل رأي عام في داخل فرنسا يضغط على الحكومة الفرنسية ويرغمها على الاعتذار وتقديم التعويضات للجزائر وإعادة جماجم قادة المقاومة ليتم دفنها في الجزائر بما يليق بها من تكريم وإذا كان الرئيس الفرنسي ديغول قد امتلك الشجاعة يوم سحب جيش فرنسا من الجزائر بعد أن أدرك تصميم الجزائريين على المقاومة حتى الاستقلال فإن شعب فرنسا يحتاج اليوم إلى قائد جديد يتمتع بذكاء وحنكة ديغول ويدرك خطورة استمرارية العداء مع شعب الجزائر والعربي والمسلم
ولا بد للشعب الفرنسي أن يدرك أن قدرته على بناء علاقاته مع الشعوب في المستقبل تبدأ بمراجعة تاريخه الأسود والتخلي عن العنصرية والاستكبار على البشرية وان يتذكر الفرنسيون احتلال ألمانيا النازية لفرنسا ومساهمة المقاتلون الجزائريون في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي وبالمقارنة بين ما قامت به فرنسا في الجزائر وبين جرائم أدولف هتلر نجد أن جرائم فرنسا تفوق وحشية وقسوة وهمجية جرائم النازية مئات المرات باستخدام الأسلحة الكيميائية وأسلحة الدمار الشامل في قتل الجزائريين بعد أن نهب الجيش الفرنسي ممتلكاتهم وطردهم وشردهم من قراهم فاضطروا للجوء إلى الجبال لكنه لم يتركهم فقام بإبادتهم باستخدام النيران والدخان
ناهيك عن استخدام التعذيب في الجزائر والذي اعترف به الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون وبشكل رسمي بأن ( الدولة الفرنسية سمحت باستخدام التعذيب خلال الحرب في الجزائر) وتلك جريمة اخرى ضد الإنسانية تضاف إلى جرائم فرنسا وتكشف مستوى التمدن والحضارة والتنوير الذي وصلت له
ختاما في ضوء كل ذلك يتوجب البدء بمرحلة المقاومة بالتاريخ والتوعية يشارك فيها الإعلاميون ووسائل الإعلام والباحثون في كل المجالات العلمية ومراكز البحوث والجامعات لكي يتم كشف الحقائق عن تاريخ حول الاستعمار والجرائم التي ارتكبها وتوعية الشعوب وتحفيزها لمواصلة الكفاح لبناء مستقبلها والتحرر من التبعية الفكرية والثقافية للغرب وتاريخ نضال وكفاح الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي يمكن أن يضيء لنا الطريق للصمود والمواجهة مهما كانت قوة الاعداء وقسوتهم
mahdimubarak@gmail.com