معايرة الكلام قبل خروجه
الدكتور رشيد عبّاس
–
بقلم / الدكتور: رشيد عبّاس
يعدُّ خلق الإنسان آية عظيمة تضاف إلى آيات الله الأخرى على هذه البصيرة, وأكثر عضو في الإنسان يحتاج إلى تأمل وتفكر هو الدماغ وتلافيفه, وأن عالم الأعصاب الفرنسي الدكتور بول (بروكا) أكد هذه الحقيقة, ويستحق بذلك جائزة نوبل كونه خاض معركة خطيرة جداً ميدانها الصعب تلافيف الدماغ, فقد مكث هذا العالم فترة طويلة من الزمن وهو يبحث في دماغ مرضاه عن منطقة تشكل الكلام, ليكتشف منطقة جديدة في الدماغ مسؤولة عن معايرة الكلام عند الإنسان, وقد سميت هذه المنطقة لاحقاً بمنطقة (بروكا) نسبة إلى مكتشفها العالم بول بروكا.
انا بكل صراحة صعقتُ كثيراً عندما قرأت ومنذُ فترة عن تلك المنطقة في الدماغ والتي تقع في الجزء الأمامي من الجانب الأيسر من الدماغ, وهي مسؤولة عن معايرة الكلام عند الإنسان قبل خروجه, والسؤال الأصعب هنا على علماء اللغة هو, متى تبدأ منطقة (بروكا) والمسؤولة عن معايرة الكلام في الدماغ بالتشكل أثناء الحمل؟ اعتقد أن الآية الكريمة من سورة المؤمنون أعطت إجابة شافية ووافية على مثل هذا التساؤل, قال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين, ثم جعلناه نطفة في قرار مكين, ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك اللهُ أحسن الخالقين).. فالإجابة تقع بالذات في قوله تعالى: (أنشأناه خلقا آخر).
أشارت الدكتورة باتريشا كول من جامعة واشنطن إلى أن منطقة معايرة الكلام بروكا تبدأ بالتشكل في نهاية مرحلة الشهر الرابع بعد أن يكتمل خلق الإنسان (الخلق الآخر), واشارت إلى اكتمال تشكل منطقة معايرة الكلام بروكا في هذه المرحلة, حيث انه في هذه المرحلة يكتسب الجنين مهارات معايرة الكلام وذلك من خلال سماع حديث امه وأفراد أسرته ومن هم حوله, لتُأكد حقيقة مفادها أن معايرة الكلام لدى الإنسان فيما بعد هي نتيجة مكتسبة لما يدور حوله من الكلام والاحاديث والنقاشات والحوارات وهو في مرحلة الجنين, حيث تكتمل هذه المهارة تقريباً في نهاية الشهر الرابع.
في عالم السيارات نسمع عن معايرة البريكات, وفي عالم الكيمياء نسمع عن معايرة الحمض والقاعدة في المحلول, وفي عالم الفضائيات نسمع عن معايرة صحن الستالايت, وفي عالم البصمات نسمع عن معايرة بصمه الأصبع.. واليوم نحن أمام علم جديد هو معايرة الكلام قبل خروجه, ويمكن أن نطرح السؤال الاتي: هل يمكن للإنسان أن يعاير كلامه قبل خروجه؟
المتتبع للأحداث في واقعنا اليومي يجد العجب العجاب في موضوع معايرة الكلام قبل خروجه,..فالبعض تكون عنده منطقة (بروكا) معطّلة تماماً, بمعنى انه لا يعاير الكلام الذي يخرج منه, فهو لا يعرف الكلام الذي يجب أن يبدأ به ولا يعرف الكلام الذي يجب أن ينتهي به, كلامه مجرد ردود فعل سريعة للأحداث الجارية من حوله, يمدح مع الجماعة دون معايرة للكلام الذي يخرج منه ان كان سياق الكلام فيه مدح للأخرين, ويذم مع الجماعة دون معايرة للكلام الذي يخرج منه ان كان سياق الكلام فيه ذم للأخرين, هؤلاء بحاجة ماسة إلى عيادة كل من (بول) و(باتريشا) لإعادة النظر في منطقة (بروكا) وترميمها, لتعود هذه المنطقة إلى وضعها الطبيعي من حيث معايرة الكلام قبل خروجه منهم.
يقال (والله اعلم), حين عُيّن طه حسين عميد الادب العربي وزيرا للمعارف في مصر عن حزب الوفد خرجت تظاهرة تضم غوغاء من الطلبة والمتزمتين يهتفون للجهل والتخلف بعد اعلان مبدئه الشهير الذي لم يفارق كرسي الوزارة إلا بعد أن أصبح قانونا تشريعيا في مصر بأن التعليم حاجة أساسية للإنسان كمثل حاجته للهواء والماء, كانوا يهتفون وهو جالس في مكتبه بالوزارة وهو يسمعهم: (اخرجوا الأعمى من الوزارة..) فقال لسكرتيره الخاص فريد شحاته خذ يدي إلى الشرفة (البلكونة) المطلة على جمع المتظاهرين…خرج اليهم فسكتوا وانصتوا لما سيقول الوزير الأعمى، فبادرهم قائلاً: (ليس لدي ما اناقش به جهلة متخلفين, لكني احمد الله الذي جعلني أعمى كي لا ارى وجوهكم القبيحة) وعاد وجلس وراء مكتبه.
أعتقد جازماً هنا انه كان ينقص هذا الحوار شيء من معايرة الكلام قبل خروجه من أفواه كلا الطرفين أن صحت الرواية..
أجمل معايرة للكلام قبل خروجه شهدها التاريخ البشري ذلك الحوار ما بين نبي الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأهل قريش ايضاً, فعند فتح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مكة قال: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم)؟ قالوا: (خيراً أخ كريم وابن أخ كريم)، قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).. ما جاء على لسان نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم, وما جاء على لسان أهل قريش ايضاً, كل ذلك كان فيه معايرة للكلام قبل خروجه منهم جميعاً..والهدف من معايرة الكلام وقتها هو سلامة (الدولة) الاسلامية المنشودة..
وبعد, هناك تطبيق أمريكي وهو الآن في لمساته الاخيرة, يستطيع الشخص من خلاله الدخول إلى منطقة (بروكا) الموجودة في دماغه, وبالذات نافذة معايرة الكلام قبل خروجه, والاطمئنان عن مدى فاعلية تلك المنطقة..والله المستعان.