هجرة وبشارة فتح
رقية محمد القضاة
=
لمّا اشتدّ اذى قريش للمستضعفين من المسلمين بمكة ،أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة وقال: “إن فيها رجلاً لا يظلم الناس عنده”، وكان ذلك في شهر رجب والحبشة يومئذ متجر قريش ، فخرجوا مستترين في ليل بهيم خلا من النور كما خلت منه قلوب المشركين القاسية، فيسر الله لهم سفينة تجارة فحملتهم إلى الحبشة، ولم تستطع فريش ادراكهم ، وكان خروجهم في شهر رجب ، وما لبثوا ان عادوا بعد اشهر قلائل ،وقد سمعوا بان قريشا كفت عن اذى الرسول صلى الله عليه وسلّم واصحابه ،فما أن وطئت اقدامهم ارض مكة الّا وقد وجدواقومهم اكثر ضراوة ووحشية
. أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة اخرى واقاموا فيها حتى قامت دولة الاسلام في المدينة المنورة ،وهو يراها أرض عدل ،والعدل مبتغى المظلومين والأمن مطلب الخائفين ،والهجرة فرارا بالدين والنفس والمعتقد ،شرعة ظلّت على مدار الزمان ،نهجا يتبعه المستضعفون ،كلّما خانتهم القوّة وغلبهم على أمرهم الطغاة والظالمون، ولكنها كثيرا ما كانت طريقا للفتح والتمكين ،ونشر الفكرة التي من أجلها يرتحل الناس من اوطانهم وبيوتهم وأهليهم ،ابتغاء وجه الله.
وهاهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم،يفرّون بدينهم إلى أرض الحبشة ،كما أشار عليهم نبيهم ،وهاهي صحراء الجزيرة العربية تشهد لهم ،بحرّها وشمسها اللاهبة،ورمالها الممتدة عبر المدى،بأنهم باعوا كل غال ونفيس ،من أجل هذا الدين،وهاهي شواطيء الجزيرة العربية ،تحمل على أجنحة المراكب الغريبة ،كوكبة من المضطهدين إلى أرض غريبة،وشواطيء غريبه ورمال غريبة ،وأصقاع لم يألفوها ،وأرض قبل اليوم لم يطؤوها،يقصدون رجلا ،قال فيه نبيهم صلى الله عليه وسلّم إنّه ملك عادل لا يظلم ،والعدل في شرعة نبيّنا،غاية الأمانة والأمان ،وهو يودعهم لدى هذا الملك ،وديعة يعرف أنها لن تضام ولن ترّوع،وبنور النبوّة يعلم أنها ستكون فاتحة خير ونصر وانتشار لهذا الدين،والنبي صلى الله عليه وسلم،يودّعهم وهو يمهد لهم البشارة،{حتّى يجعل الله لكم فرجا ممّا انتم فيه} ،فالرسالة ربّانية ،والقلوب خالصة النيّة،والرحلة مقصدها وجه الله الذي تهون في سبيله المهج والارواح،والركب الطيب يتتابع صوب الحبشة ،إلى أرض النجاشي ،مصحوبا برضى الله ،ودعاء نبيه المشفق،وتحفه البشارة أن الفرج قريب.
واستقر المقام بالمهاجرين في الحبشة، وانطلقت الأرواح تعبد ربها برضى وحرّية،وقد استشعرت برد الراحة ،وسكنت إلى عدل ربّها،واستسلمت لغربتها الآمنة ،فهل يطول عهد هذا الأمان ،؟وقريش يملؤها الحقد على محمد وأتباعه،ويقتلها غيظها ،؟وهي تراه يصلّي في البيت العتيق ،وحوله حمزة وعمر وبقية الكوكبة الطيبة من السابقين إلى الإسلام، فترسل إلى النجاشي رجلين بينه وبينهما صحبة ومودّة محمّلين بالهدايا الثمينة ، ليطلبا إلى النجاشي ردّ المسلمين إلى مكة، لتفتنهم عن دينهم
وتناثرت الكلمات الحاقدة :ايها الملك ،إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا ،وهم في أرضك،ويستغرب الملك،في أرضي؟قالوا نعم ،والملك العادل يريد ان يسمع قبل أن يحكم ،ويرسل في طلب المهاجرين ،يريد ان يسمع ويرى ويناقش أولئك الذين يعيشون في أرضه فرّارا من قومهم،فيدخل جعفر وصحبه، ويبتدرهم رهبان النجاشيّ :أسجدوا للملك،وبكل اطمئنان المؤمن وثبات حامل الحق أجاب جعفر: نحن لا نسجد إلّا لله،فقال الملك :وما ذاك؟فقال: إن الله بعث إلينا رسولا ،وهو الرسول الذي بشر به عيسى عليه السلام من بعده ،اسمه احمد فأمرنا ان نعبد الله ولا نشرك به شيئا ،وأن نقيم الصلاة،وأن نؤتي الزكاةوأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر،فأعجب النجاشيّ قوله،وعمرو يرى الإعجاب في عيون الملك الحكيم ويخشى على مهمته من الفشل ،فيمعن في الكيد لهم،فيقول:أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في ابن مريم،فقال النجاشيّ ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟والعيون تترقب الجواب ،والصفوة الطيبة ،لا ترى في الحق الّا النجاة،ويجيب جعفر:نقول فيه قول الله ،هو روح الله وكلمته اخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر،،فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه قائلا:يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه ،مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده،أشهد أنه رسول الله ،وأنه الذي بشر به عيسى ،ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتّى أقبل نعليه،امكثوا في ارضي ما شئتم .
وتستمر الرسالة بالانطلاق تحمل النور إلى أصقاع الأرض ،ويمضي ركب الأحبة ،محمّد وصحبه في رحلة مضنية ولكنها مليئة بكنوز المحبة الخالصة بينهم وبين الله ، وتتنسم يثرب نسائم العطر المكّي، وتحمل في أرجائها عبق المسك النبوي ،وتطالها أشعة الحق الدافئة ،وتصبح مستقرّالحق ،ووجهة النبي وصحبه في هجرة أخرى ،تؤرّخ لتاريخ الأمة الإسلامية بتضحية جيل تفرد بالسبق إلى الخير ،وتفرّد بالثبات والتجرد والإقبال على الله ،والتخفف من أثقال الأرض ،وأعباء الدنيا وغرورها ،صدقوا الله ففتح لهم أبواب الرحمة والمغفرة ،ولم تعرف الدنيا مثل فضلهم وصبرهم ،واستصغارهم لكل ما بذلوه لله ،فاستحقوا الوسام البديع{رضي الله عنهم ورضوا عنه}